قد يرمي شخص فكرة عابرة دون تأمل، فيجد فيها شخص آخر مشروعًا استثماريًا أو برنامج عمل ضخماً. ولو تحقق العمل الذي انطلق من تلك الفكرة العابرة، وأصبح حقيقة ماثلة للعيان، وتغيرت معه معالم تلك الفكرة البسيطة عندما أضيفت إليه أفكار أخرى، فهل لايزال العمل مملوكًا لصاحب الفكرة العابرة التي تمثل نواة العمل الأصلية؟ وهل يتذكر صاحب الفكرة العابرة أنه قال فكرة معينة تحولت إلى مشروع؟ أتذكر أن مسؤولًا كلف عددًا من الموظفين بمتابعة ما يطرح في الصحف اليومية والتقاط الأفكار المفيدة لإدارته للانتفاع بها، لكنه لم يكن يهتم بأصحاب تلك الأفكار لأنه يعتقد أن العبرة فيمن يطوّر الفكرة ويعيد صياغتها لكي تظهر على شكل مشروع عمل، وذلك جريًا على مقولة الجاحظ الشهيرة «الأفكار مطروحة في الطريق». ومع مشروعية هذه الفكرة نظريًا إلا أنه من اللائق أن نشكر من استفدنا من أفكارهم أي شيء حتى لو كانت الاستفادة محدودة، لأن الأفكار العظيمة إنما تنشأ في الأصل من محفزات متناثرة، ومن عناصر غير مكتملة، لكنها تتجمع وتتفاعل من خلال رؤية معينة لتظهر وكأنها فكرة واحدة. وإذا كانت العقول البشرية تعمل بطريقة عجيبة، فإن ورود الأفكار في الذهن يأخذ منحنيين: أحدهما يحصل نتيجة الاستدعاء عن طريق مثير خارجي يُحرض الذهن على فكرة معينة، والآخر يحصل عن طريق مثير داخلي يجعل فكرة تدعو فكرة أخرى. وتحتفظ الذاكرة بالأفكار التي تتعدد طرق جذبها في حين تنسى تلك التي تكون نتيجة عنصر طارئ. وهناك عاملان يلعبان دورًا قي استحضار الأفكار ويجعلان شخصًا يتميز على آخر، أحدهما يتعلق بالعملية العقلية كالذكاء والفطنة، والآخر يتعلق بالمادة كالخبرة والتجارب ومنها التعليم والثقافة. وإذا اجتمعت مع مجموعة من العقول لمناقشة مشكلة معينة تبحث عن حل، فستجد الآراء المتعددة المطروحة للحل تدور حول أفكار. وهذه الأفكار تكشف لنا عن رؤية كل شخص للعالم؛ فهناك من يطرح حلا، يبدو كأنه حل شكلي ولكنه في الواقع لايحل المشكلة؛ وهناك من يطرح حلا يخلق بدوره مشكلات أخرى، وهناك من يتقد ذهنه عن حل ذكي يجعل من المشكلة فرصة لخلق إمكانات للإنتاج والإبداع. جمع أحد المسؤولين مجموعة من مستشاريه لإبداء الرأي حول حل مشكلة تأخر رواتب العمالة الخاصة بالصيانة في ظل عدم وجود وصول ميزانية للبند. بدأ المستشارون يعرضون الحلول ومنها الراي الأول الذي يؤيد التفاهم، ويقترح جمعهم والحديث معهم بأسلوب ودّي وإخبارهم أن التأخير في الرواتب يعود إلى إجراءات إدارية طويلة ترجع إلى المالية، وأن حقوقهم مضمونة لكنها ستتأخر. والرأي الآخر لايتفق مع الرأي السابق، ويقترح أن نكون أكثر صرامة معهم، فنطالبهم أن يعملوا وإلا سوف يُستغنى عنهم وعليهم أن يحلوا مشاكلهم بعيدًا عن توريطنا بها لأن مشكلة تأخر الرواتب لاتخصنا، وبهذا تنتهي المشكلة، ولاداعي لتدليلهم والكلام الناعم معهم الذي يجعلهم أكثر جرأة علينا. أما الرأي الثالث، فيقترح أن نستلف من بند آخر يتوفر فيه مبلغ، ونسدد للعمال رواتبهم في وقتها، على أن تعاد هذه المبالغ حينما تأتي ميزانيته في آخر السنة. وإذا كنا أمام ثلاثة حلول فنحن في الواقع أمام ثلاثة عقول، كل واحد منها يعبر عن شخصية صاحبه وثقافته ووعيه. الأول هو العقل التقليدي الذي يقدّم حلولا شكلية يمكن أن تُهدئ الوضع لكنها لاتقدم حلا حقيقيًا للمشكلة. والعقل الثاني هو العقل الصدامي، الذي بدلا من أن يتوجه نحو حل مشكلة واحدة فإنه يخلق عددًا من المشاكل التي تصعب السيطرة عليها. أما العقل الثالث فهو العقل المبدع الذي لايتجاهل الواقع، وإنما يعمل من خلاله بطريقة ذكية، فالمبلغ موجود لكنه في اليد الأخرى، وماعلينا إلا الالتفات لكي نجده، ثم نُعيده لاحقًا إلى مكانه؛ وبهذا يكسب العاملون رواتبهم في حينها ويكون المبلغ قد استثمر في حينه مع ضمان عودته إلى مكانه. إن الفكرة مهما بدت لنا صغيرة، فإن العمل بها يجعل منها أكبر من ذلك وربما يكون تأثيرها ضخمًا. ونحن نقرأ عن تأثير بعض الأفكار البسيطة على قرارات سياسية مهمة وعلى قرارات اقتصادية أو صحية أو ثقافية؛ فلو كانت الفكرة سلبية فإن تأثيرها المدمر سيكون فظيعًا؛ وإذا كانت الفكرة إيجابية فإن النفع منها سيكون شاملا. يكفي أن نقارن بين الأفكار التقنية والطبية التي نفعت البشرية، وبين الأفكار الحربية والتدميرية التي قضت على عدد كبير من البشر.