تفاجأت الحكومات العربية بأحداث لم تكن تتوقعها، وقد شملت هذه الأحداث بلداناً مجاورة لنا؛ وأخرى ذات علاقات وثيقة مع حكومتنا، ثم اقتربت أكثر فأكثر وحلت في ثلاث دول داخل محيطنا الخليجي، وأصبحنا في بحر متلاطم من الأحداث؛ ثورة هناك، واحتجاج هنا، وتغييرات جذرية أو كبرى طوعاً أو كرها، وكل هذه المستجدات تهيب بالعاقل أن يبادر للإصلاح بوثبات لا خطوات، حتى يكون التغيير بأيدينا لا بهشتقة تويتر! وقد ازدادت المطالبات بالإصلاح، واختلفت أشكالها ما بين بيانات فردية أو جماعية، وحوارات ومقالات، وخطب وتغريدات، وتباين التعاطي الرسمي معها ومع أصحابها! ثم توالت تصريحات إصلاحية من كبار مسؤولي الدبلوماسية والاستخبارات، وتبدو هذه التصريحات جادة وليست لامتصاص التململ الشعبي الناجم عن مقارنة أوضاعنا المالية بالجيران الذين ينعمون بالمال الوفير، والمستوى العالي من المشاركة في القرار، ونحن غارقون في الديون ومحاسبون على الكلام! وتشير بوصلة التكهنات إلى انتخاب جزئي لمجلس الشورى، وتكوين مجلس وزراء جديد، وهذه الإصلاحات مطلوبة لكن لابد معها من رفع صلاحيات مجلس الشورى وإناطة المهام النيابية المتعارف عليها به، كإقرار الميزانية، ومساءلة الوزراء، ومنح الثقة للحكومة أو سحبها، وغيرها من الأعمال التي تجعل المواطن يطمئن إلى وجود من ينوب عنه في تطبيق النظام، ورعاية المصالح، وحماية المال العام، ومحاسبة المقصرين. وأما تسمية شاغلي مرتبة وزير، فثم صفات لامناص من توافرها فيمن يرشح لهذه المناصب العالية؛ وهي مواصفات يتفق عليها المواطن العادي ونخب المجتمع إضافة إلى رجالات الدولة-غالبا-، وملخصها القوة والأمانة، وفي التفاصيل أن يكون الوزير إدارياً متمكنا، وله خبرة مشرفة وتاريخ نزيه يشفع له، وأن يكون عمره دون الشيخوخة، وصحته البدنية تسمح له بعبور البلد من شرقه لغربه خلال ساعات، ويحسن تمثيل الدولة وثقافتها، ولديه من الشجاعة ما يكفي لتحمل المسؤولية؛ ورفض أي أمر يعارض الأمانة، ولا يقدم أفكاره الشخصية على لوازم وظيفته، وألا يكون مسكوناً بهدم منجزات من سبقه، وغير متعصب لمنطقة أو فئة أو تخصص، وكم نتمنى ألا يحال بين الأكفاء والمناصب بسبب دكانة اللون، أو شعر الوجه، أو نهايات الاسماء! ويجب على الوزير إعلان خطة تنفيذية، ورؤية مستقبلية حول مهمته؛ كي يحاسب على إنجازها، وأن يشهر أملاكه بُعيد تسميته وزيراً وحين إعفائه. ومن المسلمات أن يكون الاعتراض على المسؤول-بأدب- متاحاً دون عواقب سيئة، مع تعليق قرار إعادة تكليف أي وزير على مستوى الإتقان في تنفيذ خطته خلال زمنها، وانتفاء المآخذ المالية والإدارية عنه، وقلة عدد من ينتصف منه أو يقاضي وزارته، ورضى الأجهزة الرقابية الفعالة عن أدائه، إضافة إلى إبداعه في حل المشكلات المتعلقة بعمله. ويضاف لما سبق حتى تكتمل منظومة الإصلاح في بلادنا الغالية، استقلال تام وحقيقي للقضاء، وتغيير طريقة عمل أجهزة الرقابة إلى رقابة ميدانية على كل وزارة، وليست رقابة ورقية على بعض الوزارات. ومن الأهمية وضوح الخط الفاصل بين السلطات وأربابها، والتزام كل ذي سلطة بحدودها وصلاحياته، وتقليص النفوذ الكبير لوزارتي المالية والداخلية وقصره على ما يخصهما فقط. وباختصار فإن الحكومة بحاجة إلى هيكلة جديدة وفق أسس تراعي تحقيق الأنفع، وتقديم الأكفأ، وإقامة العدل، واستدامة التنمية، وضمان الاستقرار والأمن. ومن الأفكار الجميلة التي اقترحها غير واحد، ضرورة أن يكون للبلد مجلس حكماء وأعيان، يمثلون صفوة مهمة من المجتمع، فيهم عالم الشريعة والاجتماع والسياسة، ومعهم القاضي والأكاديمي والمهني، ومنهم كبراء الأسر وشيوخ القبائل، مع عدد من رجال الأعمال والمفكرين والمثقفين، ومهمة الحكماء هؤلاء رأب أي صدع قد يطرأ، ومعاونة هيئة البيعة على أعمالها، وإن العقول الراجحة لمعينة على بلوغ الحلول الناجعة. إنَّ بلادنا غالية علينا جميعا، والدفاع عنها واجب مقدس، ووحدة الصف وإزالة أسباب الشقاق أمر متعين؛ خاصة مع التربص الإيراني، والانبعاث الحوثي، والمستقبل العراقي المخيف، فضلاً عما جرى ويجري في البلدان العربية البعيدة والقريبة. وكل إصلاح ينشده الناس يتلخص في أن يأمن المواطن على دينه وعرضه ودمه وماله وحريته من أن تنتهك دون مستند شرعي أو نظامي واضح ومعروف، وفي حال حدوث ذلك يكون الطريق للاعتراض عليه عند القضاء مأموناً، وأخذ الحق مضموناً ولو كان صاحبه ضعيفاً، وكائناً من كان خصمه كما ورد في أكثر من أمر ملكي. والغايات المرجوة من الإصلاح كثيرة، فمنها أن يكون الكافة متماثلين في الحقوق والواجبات، دون أن يكون لأحد مزية أو حظوة لا أساس لها، إذ الأصل أن الجميع سواسية أمام فيضان المال، وعند نظر القاضي، وتحت سلطان الشريعة. ومن الغايات أن نتشارك في إدارة وطننا، ونتكاتف لحماية بيتنا الكبير، ونحافظ على وحدته وقيمه وثروته، مع قطع الطريق على أي تدخل خارجي أو عبث داخلي، ولا يتأتي ذلك إلا إذا كان فينا من يسمع النقد والشكوى ثم لا يتبرم بهما، ولا يظن بالناقد إلا خيراً، فالإصلاح المأمول لا يتجه نحو اجتثات واقع قائم، أو اقتلاع جذور عميقة، وإنما غايته الاستمرار بصورة تواكب العصر ومتغيراته.