قبل أيام، أو قبل أسابيع، (لا أعرف الزمن، كأنه أمس)، كانت عربة انتخابات الأندية الأدبية قد بلغت نادي الباحة الأدبي.كان الهدف هو انتخاب أساطين جدد للعمل الثقافي هناك. مسؤولو الوزارة كانوا متفائلين بحال الثقافة والمثقفين هناك فقرروا أن يصعد على منصة الانتخابات عدد من ممثليها الثقاة، ووضعوا في الطرف البعيد للمنصة امرأة مثقفة وكاتبة معروفة هي الدكتورة: سعاد المانع، أما القاعة فقد احتشدت بأعضاء اللجنة العمومية الذين قدموا لانتخاب أبطال المجلس الجديد..!. فجأة، نهض أحد الأعضاء لينتقد حضور امرأة على المنصة ومن ورائه نهضت ثلة تتوعد إداريي الوزارة والنادي الذين سمحوا لهذه الأخت (الفاضلة حقاً كما علق الشيخ أحمد قاسم لاحقاً) أن تتواجد وسط هذا الحشد الرجالي. الموقف كله حمل إحدى الأخوات المناصحات (هل كانت أديبة حقاً؟!) لكي تقفز إلى المنصة متبرعة بإلقاء موعظة عن المكان الذي ينبغي أن تكون فيه أختنا المانع، أي في كواليس القاعة النسائية، حيث تلقي كل مثقفات الوطن نصوصهن ومحاضراتهن ويتخاطبن مع الحضور من وراء الجدران الصماء.. كانت هذه القفزة مناسبة لكي يطمئن المحتفلون أننا أمام مائدة أدبية لا تشوبها الشوائب.هذا الموال النسائي/ الذكوري العالي الوطيس نسمعه في أكثر من موقع. كان آخر تلك المواقع هنا، في قاعة الغرفة التجارية بالدمام حين نهض أحد الإخوة لتتبعه أخت أخرى ليؤكدا ضرورات الفصل بين النساء والرجال في القاعات، محذرين من فداحة وجود كاميرات الإعلاميين في القاعة، ليرد عبدالله الكناني، مدير عام الأندية الأدبية عن تلك الأسئلة بكل مودة وحزم. هل من الجديد القول إن كل من يدب على الأرض اليوم يحمل كاميرا في جيبه؟ أعود إلى الباحة وإلى الموقف الدرامي الذي حدث لأقول لهؤلاء الإخوة المعترضين على حضور المانع على المنصة: إنني أحمد الله أنني عشت في ذلك الزمن الخصب، الذي كنت أهبط وإخوتي فيه، رجالاً ونساء كغيرنا من أهالي القرى، إلى المزارع والأودية لنحرث الأرض ونسقيها، ونحصد ثمرها، ونشذب أشجارها، ونطرد الطير وفلول الجراد عن محاصيلها، ونعمر مزارعها حين تخترقها السيول العارمة. كان الناس، كهولاً وعجائز، بنين وبنات، في وسط كل ذلك التعب يغنون وينشدون، ويروون القصص والعبر والأمثال، وكانوا يصنعون حياة كريمة تليق بالبشر الأسوياء الذين سخرهم الله لعمارة الأرض. لكل هذا فإنني أعجب أن تكون جبال الباحة الزاهية قد آوت عبر الزمن الناس واحتضنت سفوحها الغزلان والوحوش، لكنها عجزت عن محاورة امرأة لا تحمل أكثر من بضاعة الكلمات والأفكار وتحلم بصناعة مساحة أوسع للإبداع والفعل الثقافي.أقول للإخوة الذين سجلوا أنفسهم أعضاء في لجان الأندية العمومية، إننا سنختلف اليوم وغداً، كما اختلف الأولون وتصارعوا، لكنني أذكّرهم أن ميدان النادي الأدبي (المفترض) ينبغي أن يكون مكاناً للحوار الخلاق حول شؤون الإبداع شعراً وقصة ورواية ومسرحاً وتشكيلاً وسينما، بكل ما تتضمنه من صراعات وجدالات بين مدارس نقدية وفكرية وجمالية متصارعة، قديمة وحديثة. هذه هي الصناعة التي ننتظرها من النادي، صناعة منفتحة على كل جديد ومغاير تتمثل في ندواتها وعبر إصداراتها ومن خلال ضيوفها.أولئك الذين حضروا حفلة الاقتراع فيما هم لا يعرفون موقع النادي، أو أن الأدب كله لا يعنيهم في شيء، أو أن الثقافة لديهم لا تزيد على أدبيات الحلال والحرام.. أقول إن عليهم أن يبحثوا عن حرفة جديدة تؤكل عيشاً، فالأدب مهنة البسطاء المعذبين والمحزونين!.