سعد بن عبد العزيز الراشد - الجزيرة السعودية صدر للشيخ الدكتور عائض القرني كتاباً جديداً صغير الحجم بعنوان « خارطة الطريق» ويقع في (186) صفحة، وليس في الكتاب أبواب أو فصول حسب المتعارف عليه في منهجية التأليف بل حوى مجموعة من النصائح بلغ عددها (390)، وجهها المؤلف على شكل رسائل أو بطاقات تحمل كل واحدة موضوعاً محدداً فيه موعظة أو توجيه. ويقول المؤلف في مقدمة الكتاب: « ولعل القارئ يلاحظ بعض دقائق المسائل لهذا الكتاب عن الحياة اليومية، وهذا موافق لطبيعة رسالتنا الخالدة التي تحدّثت عن العقيدة وعن إماطة الأذى عن الطريق، وقد قصدت إلى العمل الميداني في كتابي، وابتعدت عن التنظير والتأطير، لأن أموراً فلسفية ذهنية قد تبعد الإنسان عن حياته وعن واقعه، والكتاب يقدم نفسه...». وبقراءة مجموع النصائح أو الرسائل التي احتواها الكتاب تبين لنا أنها خليط مما تداولته المصادر التراثية ومن غيرها من الأدبيات مع مشاهدات المؤلف خلال رحلاته في عدد من بلاد العالم، ونستنتج أن الفئة المستهدفة من تلك النصائح هم من فئات الشباب وتحديداً من السعوديين (هذا ما نفهمه من المقدمة والمضمون)، ونثمن للدكتور الشيخ عائض القرني حرصه على توعية الشباب بالأخلاق والآداب الحميدة باحترام الآخرين والتمسك بالسلوكيات التي حث عليها الدين الحنيف والتقيد بالأنظمة والقوانين إلى آخر ذلك من النصائح... ولكن ومع تقديرنا لهذا التوجه الجميل إلاّ أننا نجد أنّ في بعض تلك الرسائل والنصائح شيء من التّزَيُدْ الذي يخرج عن مضمون النصح والتوجيه، مثل وصفه أكثر الناس أنهم أصفاراً وأنهم « غثاء كغثاء السيل لا علم ولا عبادة ولا ذكاء ولا إبداع، فالكثير همج لا همّ لهم إلاّ شهواتهم فقط فليلهم سهر، ونهارهم غفلة، وربما لا تجد في الألف منهم إلا واحداً، فلا تغتر بكثرتهم», ومنها أيضاً زيارته لمكتبة الكونجرس وإقامته في مدينة ميونخ... إلا أنه شملهما بإشارات الهمز واللمز كما هو في باقي رسائل ونصائح الشيخ القرني التي كنت أتمنى أن يجعل مما ذكره مثالاً يحتذى للنهوض في التنظيم وحسن الإدارة وبناء صروح العلم، وأترك الحكم في ما ذكره الشيخ للقارئ الحصيف. غير أن ما شد انتباهي من جملة النصائح والإرشادات وتوقفت عندها مستغرباً تلك النصيحة التي وضع عنوانها {الاهتمامات التافهة} (ص: 118) وأنقلها بنصها كما وردت حيث يقول :» إياك والاهتمامات التافهة وإشغال الذهن بها كالعادات القبلية السقيمة التي ليس عليها نور الشرع، وكالاهتمام باجتماعات السهر والسمر مع الفارغين، وضياع العمر في حفلات شعبية عقيمة، والاشتغال بعلم الآثار الذي لا يبنى عليه فائدة، وجمع التحف التي ليس فيها كسب مادي، ونحو ذلك مما يضيع الوقت والمال والجهد، ويحول بينك وبين الأعمال المفيدة الناجحة». ولعل القارئ يلاحظ هذا الخلط العجيب الغريب، ولو سلّمْنا فرضاً أن إهدار الوقت في غير الأشياء المحمودة مثل ما ذكره الشيخ فما المقصد من إقحام علم الآثار وجمع التحف في هذه النصيحة؟ وهل وصل بالشيخ الدكتور القرني درجة عالية من المعرفة بشتى العلوم ليستنتج في نهاية المطاف أن علم الآثار من العلوم التافهة؟ نستغرب ذلك حقاً لأن ما ذكره الدكتور الشيخ القرني عن علم الآثار لا ينسجم مع النصيحة التي أوردها بعنوان {ادّعاء المعرفة} (145)، ومما قال فيها « لا تدّع معرفة كل شيء، بل تواضع وعوِدْ نفسك كلمة لا أعلم» ثم يقول « ولا تتكلم في تخصص، وأصحابه حاضرون كحديثك عن الطب في وجود أطباء، أو عن الفتيا في حضور فقهاء، فهذا ليس تخصصك, فإنك سوف تكسب عداوتهم, ثم هذا فضول منك، وتدخل فيما لا يعنيك، وإثم لن تنجو من تبعاته, الزم فنّك وتواضعْ، واعلم أنه فوق كل ذي علم عليم». ويتبين لنا بشكل جلي أن الشيخ الدكتور القرن تواضع لكل العلوم النظرية والتطبيقية عدا - علم الآثار- الذي نظر إليه أنه عِلْمٌ تافه. ونحن لا نستغرب رأي الشيخ واستنهاضه وتوجيهه للشباب أن يتجنبوا هذا العلم، فقد سبق أن تبرأ الشيخ من تراث أمته عبر مقالة مطولة بعنوان «العالم الثالث في غيبوبة» نشرتها صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 11 ذي القعدة 1431ه (19 أكتوبر 2010م) الذي لم يأخذ بزمام التقنية، وعاب على شعوب العالم الثالث « بإخراجهم التراث القديم البائس من الخناجر وجفان العود وصحاف الخشب والحبال البالية والقرب الممزقة والحجارة المهشمة والأبواب المخلعة وبيوت الطين المنهارة وقلنا للعالم هذا تراثنا العظيم الذي ورثناه من الآباء والأجداد». وطالما أن الشيخ الدكتور القرني حثّ الشباب على التواضع وعدم الادعاء بمعرفة كل شيء فلعله يسمح لي بأن أوضح له بإيجاز حول علم الآثار وفضائله على البشرية على النحو الآتي: - اهتم العرب والمسلمون بالآثار والتراث الحضاري - قبل الإسلام وبعده- وكتب التراث والتاريخ والجغرافيا والمعاجم اللغوية والدواوين الشعرية غنية بالمعلومات عن حضارات الأمم والدول والشعوب، وبينت تلك المصادر عمارة الإنسان للأرض وتعرفنا من خلالها على المشاريع العظيمة التي أنشأتها دول الإسلام من مدن وطرق وجسور وعيون ومعاهد وصناعات نافست حضارات وشعوب العالم حتى غدت حضارة الإسلام والمسلمين مقدمة على بقية الحضارات لما فيها من همة وعلو شأن. - علم الآثار نشأ وتطور منذ أربعمائة عام ولم يكن هدفه التمجيد للأساطير والحكايات بقدر ما كان الهدف الأساس هو رصد للتطور الحضاري والسياسي والثقافي للإنسان منذ الخليقة وحتى اليوم. - علم الآثار تتداخل معه علوم أخرى كثيرة ومنها الجيولوجيا والطب والفلك والجغرافيا والنبات والحيوان والأنثروبولوجيا والاجتماع والتاريخ ذلك من العلوم. - يحسب لعلماء الآثار أنهم توصلوا بعد دراسات شاقة وحفائر أثرية متوالية إلى الكشف عن أسرار حضارات لم نكن نعرف عنها إلا النزر اليسير ومنها حضارات مصر وبلاد الرافدين وفارس والشام، وفي كل مكان من بلاد العالم. - علماء الآثار لهم الفضل في فك رموز الكتابات القديمة الهيروغليفية والديموطيقية والمسمارية وخط المسند والآرامية والنبطية، ودرسوا تطور الحرف العربي الذي كتب القرآن الكريم والسنة الشريفة وتاريخنا الإسلامي المجيد. - علم الآثار كشف أسرار تعاقب الحضارات في الجزيرة العربية بعامة والمملكة العربية السعودية بخاصة ليكتشفوا - حتى الآن- ما سجله البشر على الحجر من رسوم ووسوم ونقوش وكتابات تعود في عمقها التاريخي إلى أكثر من عشرة آلاف عام ق.م. وكشف علماء الآثار عن مدن وحضارات سادت وكنا نحسب أنها بادت فكان أن ظهرت لنا مكونات لحضارات عميقة الجذور في كل مناحي الحياة وجَعلنا نفهم أن رسالة الإسلام ومن حملوا وتحملوا نقلها للعالم لم يكونوا من عالم آخر بل كانت قوتهم في هذا الدين العظيم والتراكم المعرفي والفكري الذي اكتسبه أوائل الصحابة والتابعين والقادة العظام من تراث ثمين يمتد في عروقنا جيلاً بعد جيل وحتى يومنا هذا. - علم الآثار خرّجَ علماء وباحثين شيمتهم التواضع والبساطة وعملوا بصمت، ودونوا سجلاً حافلاً للعلم والمعرفة ونقلوا على أكتافهم، وحملوا بين أكفهم أنفس وأغلى ما تركه الإنسان عبر العصور، ولم يذهب عملهم سدى بل تلقفته الدول وشعوبها التي تحترم الحضارة والتاريخ فأنشأوا متاحف أصبحت صروحاً للعلم والمعرفة وحولوا القصور والقلاع إلى مراكز ثقافية حية يقصدها آلاف البشر من كل حدب وصوب وأصبحت المتاحف دوراً للعلم ومراكز للبحث ومصدراً مهماً من مصادر التعلم، وتستقطب الطلاب بمختلف مراحلهم العمرية لإجراء التطبيقات الدراسية على ما تعرضه المتاحف من مواد حضارية متنوعة. - فتح علم الآثار آفاقاً واسعةً للعمل الشريف، المهني والفني، والاقتصادي، معروف القصد ومحدد الهدف والرؤية، وبسبب المتاحف والآثار نشأت وزارات وهيئات للسياحة تعنى بالتعريف بحضارات الأمم والشعوب والتقريب بينها في المعارف والثقافات المشتركة والعادات والتقاليد، ونتج عن ذلك إنشاء الفنادق والخانات والنزل في الأماكن القريبة من المتاحف ومواقع الحضارات القديمة وأواسط المدن التاريخية، وبهذا يعود السائح والزائر محملاً بالنشرات التثقيفية وبالمطبوعات العلمية النافعة وعطفاً على مشاهداته وانطباعاته من خلا ما دونه قلمه أو التقطتها آلة التصوير. - علم الآثار أحد الأسس والمفاهيم التي قامت عليها منظمة اليونسكو وكانت المملكة في عهد الملك عبد العزيز (رحمه الله) من أوائل الدول التي شاركت في تأسيس المنظمة (في 4 نوفمبر 1946م)، وكان هذا مصدر فخر لنا وتقدير من دول العالم لنا حتى اليوم. - وحرصاً من دولتنا (المملكة العربية السعودية) في المحافظة على التراث الحضاري للبلاد فقد صدر قبل أكثر من خمسين عاماً قرار المقام السامي بإنشاء إدارة للآثار مرتبطة بوزارة المعارف لكون الوزارة هي الجهة المنوط بها تمثيل الدولة اليونسكو والمنظمات الإقليمية والقارية والدولية المعنية بالتراث، وبعد ذلك بعشرة أعوام صدر نظام الآثار بناء على المرسوم الملكي رقم (م-26 في 23-6-1392ه) وإنشاء مجلس أعلى للآثار ليعمل على توجيه دفة الخطط والمشاريع العلمية والبحثية والمحافظة على المواقع الأثرية والمعالم التاريخية. - أثمرت جهود إدارة الآثار (التي أصبحت وكالة للآثار) في النهوض بآثار المملكة ومعالمها التاريخية والتراثية، والمحافظة عليها وإنشاء المتاحف الجديدة وتوظيف عدد من المباني التاريخية والتراثية وتحويلها إلى متاحف محلية وإقليمية ومراكز للثقافة والتراث وتأهيل الدارسين والباحثين للعمل في حقل الآثار والمتاحف. - ولكون الآثار العمود الفقري للسياحة في أرجاء العالم فقد رأت الدولة ضم وكالة الآثار والمتاحف بوزارة التربية والتعليم إلى الهيئة العليا للسياحة ويصبح المسمى (الهيئة العامة للسياحة والآثار) وقد بدأت الآثار تشهد نقلة غير مسبوقة في المجال العلمي والإداري والفني وواكب هذا التطوير تحويل قسم الآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود إلى كلية للسياحة والآثار بهدف تلبية سوق العمل في المجالين السياحي والتراثي. - نجحت الهيئة العامة للسياحة والآثار في تسجيل موقعين من مواقع الآثار والتاريخ على قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو هما مدائن صالح ومدينة الدرعية التاريخية ويعد هذا اعترافا دوليا بأهمية آثار المملكة كتراث إنساني عالمي والفضل في ذلك لعلم وعلماء الآثار. - ولأهمية آثار المملكة وتراثها الحضاري، فهاهي «روائع من آثار المملكة» تعرض في أشهر المتاحف العالمية في باريس وبرشلونة وليننجراد (بطرسبرج) وبرلين، ثم إلى أمريكا والصين وغيرها من بلاد العالم ليطلع عليها طلاب المعرفة ويتعرف الناس بمختلف مشاربهم على حضارة العرب والمسلمين في جزيرة العرب أرض الإسلام وقبلة المسلمين وبلاد الحرمين الشريفين. - عملت وزارة التعليم العالي على إعطاء أهمية خاصة للآثار والسياحة بموافقتها على فتح أقسام جديدة في عدد من الجامعات تعني بالسياحة والآثار وتعمل بمبدأ الشراكة مع الهيئة العامة للسياحة والآثار وهذا سيؤدي إلى دعم مسيرة التنمية في بلادنا وبناء الكوادر البشرية المؤهلة في الآثار والسياحة. ولعل المقام لا يسمح للإسهاب في توضيح أهمية علم الآثار في الكشف والتوثيق للحضارات الإنسانية وفي توفير مصدر معلوماتي ينهل منه المؤرخون في كتابة التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وفي التحليل والتعليل لتاريخ الأمم والشعوب. وأقول للشيخ الدكتور عائض القرني بأن علم الآثار سيبقى من العلوم المهمة والنافعة والمؤثرة في حياة الشعوب، وسيظل علماء الآثار في مقدمة من يشار إليهم بالاحترام والتقدير لدورهم في البحث العلمي في بلادنا وفي كل بلاد العالم. ولذا فإن النصيحة التي وجهها الشيخ القرني للشباب ب(عدم الاشتغال بعلم الآثار الذي لا يبنى عليه فائدة) لن يكترث بها أحد وهناك فرق بين الهواية والرغبة وما لا يعجبه علم من العلوم فستأسره علوم أخرى. وأقول أيضاً للشيخ الدكتور القرني، وبعد خبرة طويلة مع علم الآثار فإني لو استقبلت من أمري ما استدبرت لاخترت علم الآثار. والله من وراء القصد،،،،