جاء فوز حزب النهضة الإسلامي متوقعاً في انتخابات المجلس التأسيسي في تونس، فالذاكرة العربية لا زالت تحمّل المشروع العلماني إخفاقات المرحلة السابقة، والذي أنتج أنظمة استبدادية ترفع شعارات الحداثة الغربية، لكنها تحكم من خلال استبداد لم يسبق له مثيل في تاريخ العرب والمسلمين، بل وصل الحال في أغلبها في أن يأتي بنظام سياسي جمولوكي غريب، يُجبر فيها رئيس الجمهورية شعبه بقبول ابنه كوريث للسلطة في بلاده، لذلك لا أستغرب أن تنتصر الأحزاب الإسلامية في الانتخابات القادمة في ليبيا ومصر. في اتجاه آخر تدخل التيارات الإسلامية في تحد كبير، هو مقاومة إغراء السلطة والانفراد بها كما فعلت الأحزاب العلمانية سابقاً، وستكون المرحلة القادمة امتحان سياسي كبير لهم، والسؤال هل سيخفقون في تجاوز الإغراء السياسي عندما يستغلون انتصارهم في تحقيق حلم إقامة الدولة الإسلامية الكبرى، أم أنهم سيجدونها فرصه إصلاحية لتنقية المفاهيم الإسلامية من القيم التي تلوثت عبر التاريخ بالاستبداد والتسلط، وذلك ممكن في حال احترام حقوق الإنسان وآليات المجتمع المدني، وقد لا نحتاج إلى اجتهاد في ذلك، فتاريخ المسلمين في العصور الأولى كان مثالاً للحكم المدني، وكيف لا.. وخليفة رسول الله أبو بكر رضي الله عنه أعطى في خطبته الشهيرة مبدءاً سياسياً خالداً عندما قال «أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه. رفع شعار الإسلام هو الحل لا يعني أنهم بمنأى عن الاستبداد، فالدين أيضاً يتم استغلاله في القمع والاضطهاد، لذلك على التيارات الإسلامية أن ترفع عنها القدسية، وأن تشارك في العملية السياسية كحزب مدني، وأن ترفض إطلاق شعار الأسلمة على برامجها، وذلك لئلا يُفهم أنهم يقدمون أنفسهم كمحتكرين وممثلين وحيدين للتفسير الديني في شئون السياسة، ولو كان ذلك صحيحاً لما أعطى أبو بكر رضي الله عنه الناس حق تقويم أدائه السياسي، ولما زهد عمر بن الخطاب في الخلافة عندما رفض أن يكون ابنه أحد المرشحين للخلافة من بعده. يمر العالم العربي في مرحلة جديدة من رفع شعارات الحرية والعدالة، وذلك ليس بجديد فقد مرّ العرب سابقاً في مثل هذه الحقبة في القرن الماضي، ولم تمنع الشعارات البراقة الأحزاب السياسية من اختطاف السلطة، والتي لها لذة مطلقه، يسيل لها لعاب السياسي، ويحرص على احتكارها، ليدخل في حالة ارتياب وهلع، فيظلم ويعذب ويقتل، ومع مرور الوقت يفقد صفاته الإنسانية ثم يتحول إلى إنسان يعتقد بتفوقه واختلافه عمن حوله، ثم تحدث المأساة عندما يسعى لمواجهة شعبه وقتله في الشوارع، ومن ثم دخول خط اللارجعه وقرب نهايته الدموية. أظهرت الأحداث الأخيرة عدم صلاحية دعوات القطيعة في العالم العربي، فالتوفيق بين موروث الأمة والحداثة هو السبيل الذي سيحدث التغيير وينقل الأمة إلى مراحل متقدمه، ذلك لأن فلسفة القطيعة مع الماضي فشلت في الجمهوريات العسكرية بدءاً من العراق وانتهاء بليبيا، والتي لم تنجح فيهما برامج القطيعة مع الماضي، إذ عادت القوى الإسلامي المختلفة إلى الواجهة بمجرد سقوط الطاغية، وقد نصل إلى قناعه أن القطيعة مفهوم معرفي مصيره الفشل كما حدث في مشاريع شيوعية الاتحاد السوفيتي وعلمانية فرنسا وتركيا أو في تونس في عصر بورقيبة. سيأتي الدور السياسي للقوى الإسلامية على طبق من ذهب من خلال صناديق الاقتراع، لكن عليهم أن يتذكروا أن أساليب القطيعة أو الإقصاء لن تنجح في الاتجاه الآخر في حال عملوا على إقصاء القوى الوطنية الأخرى، ولو حدث ذلك ستهب رياح تغيير أخرى في مستقبل الأيام أن أصابهم ما أصاب غيرهم من تلوث سياسي استبدادي، ولا بد من أن يتوقفوا عن رفع الكلمات الرنانة في المحافل الجماهيرية، ولعل أخرها ما حدث في احتفال التحرير الليبي، عندما رفع رئيس المجلس الانتقالي شعار تطبيق الشريعة الإسلامية بالسماح بتعدد الزوجات، وكان له صداه الشعبي في الساحة، وقد يُفهم من ذلك أن التجربة الليبية لازال في أول الطريق، وأمامها الكثير من أجل أن تصل إلى مستوى الوعي السياسي الذي إليه المواطن في تونس، وقد يكون السبب شلل الحراك السياسي المدني في عصر الطاغية القذافي.