خططت الولاياتالمتحدة، منذ أن قررت الانسحاب من العراق، لحماية ما حققته في بلاد الرافدين وفي الشرق الأوسط عموماً، وللحيلولة دون تحول بغداد إلى واسطة العقد في التحالف الإيراني - السوري. لتحقيق ذلك، اعتمدت واشنطن على عزل إيران وسورية عالمياً وفي المنطقة، والضغط على العراق ليكون تحت مظلتها سياسياً وعسكرياً. وشجعت «الصحوات» التي حاربت «القاعدة» وطردتها من مناطقها على الدخول في العملية السياسية. وخاضت، وتخوض حوارات مع الحركات الإسلامية، خصوصاً التي تعتمد النموذج التركي في توجهاتها، مثل حركة «النهضة» في تونس، و «الإخوان» في مصر، فهي متأكدة من أن احداً لا يمكنه ملء الفراغ الذي يخلفه الحلفاء غير الإسلاميين، فهم الأكثر تنظيماً، فضلاً عن أن «اعتدالهم» لا يشكل خطراً على مصالحها، ولن يكونوا إلى جانب طهران أو دمشق لأسباب كثيرة، ربما كان أهمها الخلاف الديني العقائدي. أما الأحزاب الأخرى من قومية وليبيرالية ويسارية فلا تستطيع الإمساك بالشارع، ولا يمكن التكهن بسياساتها. وتعاقب أوباما وكلينتون وبانيتا على توجيه رسائل تحذير إلى طهرانودمشق، مؤكدين أن الانسحاب لا يعني التخلي عن العراق، فبين البلدين اتفاق استراتيجي ينص على التعاون الأمني والاقتصادي والثقافي والتعليمي إلخ... وسيبقى في بغداد 16 ألف موظف في السفارة، ومئات المرتزقة لحماية المصالح والمنشآت والشركات، لذا لم تبدِ واشنطن كثير اسف لفشل المحادثات مع المالكي لإعطاء المدربين الذين سيبقون بعد الانسحاب الحصانة القانونية اللازمة، ووجد الطرفان مخرجاً من هذا الخلاف في تفاهم أولي على تدريب الجيش بعد كل صفقة جديدة لشراء الأسلحة الحديثة. فضلاً عن ذلك ترى الإدارة الأميركية أن أكثر من 150 ألف جندي لم يستطيعوا وقف النفوذ الإيراني، فكيف يستطيع ذلك بضع مئات من المدربين؟ وما يطمئن الولاياتالمتحدة إلى احتواء العراق عسكرياً ومنعه من الوقوع في القبضة الإيرانية أن لديها قواعد عسكرية في المنطقة، على ما قال أوباما. قواعد مستعدة للتحرك في أي لحظة، من دون اعتراض الدول التي «تستضيفها»، فقاعدة إنجرليك في تركيا، على سبيل المثال، جاهزة. وأنقرة التي عارضت استخدام هذه القاعدة عام 2003 غيرت موقفها وشاركت الأطلسي في إسقاط القذافي، وهي تتصدر المطالبين بتغيير النظام في سورية. وربما كانت قطر خير دليل على أهمية القواعد ودورها بعد الانسحاب، فها هي الدوحة تقود تحالفاً جديداً انبثق من حملة الأطلسي على طرابلس الغرب. تحالف قد لا يكون موقتاً، وقد يسعى إلى تكرار التجربة في غير مكان. يتغير الشرق الأوسط. ثوراته الشعبية تطيح ديكتاتوريات حليفة لواشنطن. تطرح شعارات الحرية والديموقراطية، ومعها تتحول سياسات الولاياتالمتحدة، تصور نفسها قائدة ل «الربيع العربي» وناطقة باسمه، فالثورات بيئة صالحة للاستغلال.