من جديد يسجل السعوديون موقفا مشهودا، في اتخاذ القرار والتأسيس لمستقبلهم. فلم تمض على حزنهم برحيل فقيدهم الكبير ومصابهم الجلل إلا أيام معدودة، فما إن انتهى عزاء الراحل إلا والكبار يضعون النقاط على الحروف. يختار الملك وليا للعهد، ويعرضه على هيئة البيعة، التي تبايع الأمير نايف بن عبد العزيز كسابع ولي عهد للبلاد. دقة وانتظام قلما تجدهما في مكان آخر. مرة أخرى يثبت السعوديون أن ترتيب بيت حكمهم، وفي الوقت الذي يمثل أولوية قصوى، فإنه في كل مرة يحظى بالتوافق والإجماع، وهو ما يعكس نموذج الحكم الفريد الذي تسير عليه هذه المملكة. ربما في دول أخرى، لا تقارن بأهمية السعودية ولا دورها ولا ثقلها، ينشغل الناس بأمور الخلافة وترتيباتها، وتتعقد الأمور في بعض مراحلها، لكن هذا ما لم نره في السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز رحمه الله فقد كانت الدروس والعبر تتوالى ملكا بعد الآخر، وقائدا يخلف قائدا، فيطمئن الشعب أن مستقبل قيادته يمضي وفق آلية التوافق والإجماع، فلا يقلق على مستقبل بلاده، ولا أجياله القادمة، ويكفي هنا أن نذكر أنه على الرغم من أن نظام البيعة لا يطبق على اختيار ولي العهد الحالي، إلا أن خادم الحرمين الشريفين يؤكد مجددا أنه ماض في الإصلاحات، فيفعّل هيئة البيعة ويبلغها بقراره، في رسالة لا يخطئ الشعب السعودي معناها وما تشكله من مغزى سياسي لآلية ترتيب بيت الحكم السعودي، فأي درس جديد قدمه عبد الله بن عبد العزيز هذه المرة؟ غني عن القول أن هناك من الخربشات والمشاغبات التي يقوم بها البعض خارج البلاد، لاستغلال أي حدث جلل يصيبها، هذه المرة أرادوا استعراض تكهناتهم المعروفة أهدافها، ولأن السفينة السعودية تسير بثبات لا تعيقها الأسماك الصغيرة، ردت المملكة بالفعل، لا بالقول، فكان اختيارها لولي عهدها الجديد موفقا في التوقيت وفي الآلية. فلم يشغلهم عظم مصابهم عن الاهتمام بمستقبل بلادهم، فكان الإعلان عن هوية ولي العهد، ومبايعة هيئة البيعة له، ضمانا مستقبليا لمن أراد أن يختبر حكمة السعوديين في إدارة شؤونهم. كم هي بليغة تلك الرسائل المتوالية التي يرسلها قادة هذه البلاد للداخل والخارج، فمن ملك يتحامل على آلامه منتصرا للوفاء لأخيه وعضيده، ومن تكاتف أسرة حاكمة تشكل مرجعا لوحدة هذه البلاد وأهلها، وصولا لولي العهد الأمير نايف بن عبد العزيز، الذي لم يمنع كونه الرجل الثاني في البلاد بالقول إن الملك لو طلب من ولي عهده أن يرمي بنفسه من مكان عال لما تأخر، فأين نجد مثل هذه التراتبية غير المسبوقة سوى في السعودية؟ وأين نرى مثل هذا الاحترام والتقدير للكبير إلا في هذه البلاد؟ هنيئا للسعوديين تماسكهم وتعاضدهم في السراء والضراء، وهنيئا لهم اختيار ولي عهدهم الجديد. ولعل الرسالة الأبلغ التي سيقدمها الشارع السعودي للعالم بأسره تتلخص في عبارة واحدة توضح العلاقة بين الحاكم والمحكوم: اللهم إنني أبايع الأمير نايف ولياً للعهد على السمع والطاعة في المنشط والمكره.