منذ ان ودع تلك الحارة... راح يلهو بطفولته.. منذ زيادة جسمه في اتساع اللحمة بالشحمة.. توقف أمام زمانه الفظ؛ أحس انه لا يصلح لشيء سوى لملمة ارتباكاته والاتكاء على تلك الحافة المسماة انتظار المنية «الموت »!!.. أجل أنت الوحيد.. من خفف عنه الحمل..لكن من يخفف عنه ذل مأساة الزمن المتراكم في أبنائه من بعد اعتقاله في غرفته المظلمة.. وعذابات البرزخ!! ولأن الموت في عيون الأغبياء نهاية وفي عينه زجاج يتم جمعه في ظلمة موحشة.. عذبته الرغبات السرمدية للموت، وكأن الموت غواية امرأة أو جوع فاحش أو رعب ليل في المقابر. - راجع النفس الحزينة - إلهي، إنك تعلم ضيق صدري!! ويقول لوالديه: « عند مماتي لا تبكوا كثيرا.. دعوا الناس يبكوا فقط.. واطلبوا منهم ان يوسعوا حفرة قبري.. حتى أراجع كل حساباتي الدنيوية بارتياح..» لأنه منذ ان خرج من رحم أمه.. جرب البكاء..فكان النحيب والصراخ.. يسايره في كل مكان ينحت على جسده السمين الرهط وليس هذا فقط.. بل خلعوا بعض أعضائه في المعتقل.. وشردوه عن وطنه.. كنصبٍ من الملتزمين!! سنوات وهو يفرك جفونه بيده كطفل يضع رأسه على فخذ أمه.. دائما فالدمع لديه يلازمه قرب المنام!! لون الموت الموحش.. أحاطه.. وانتشر في كل الجهات، أجال عينه نظرة منه شملت كوماً من الأطباء الملتفين حوله.. بينما هو ملقى على سرير الموت.. يضغط على مخارج الحروف: - كم هو رائع انتظارك يا موت.. ستعلمني كيف تكون الكتابة بالحبر الأبيض.. فما أكثر الذين يكتبون بالحبر الأسود في هذا الزمن.. حيث باعوا كرامتهم من أجل المال.. ونسوا تلك الكلمات الرائعة.. التي تلفظ بها الأجداد : « هين قرشك.. ولا تهين نفسك «.. أريد أن أعرفك.. يا موت أكثر.. أن أروي لك تاريخي السري بالحبر الأبيض.. أريد أن اكتب الآن كل التفاصيل منذ أن تنفست على وجه هذه الأرض.. - وفجأة يغفو للحظات.. يسمع فيها أصوات المشارط والمقصات في أيادي الأطباء تخاصم جسده.. فهو يعلم أن الموت ورم يتفشى.. يتسرب إلى دمه.. وهم يحاورون مكانه. انه هنا الموت.. من ناحية اليسار.. لا بد من استئصاله.. يبتسم في الوجوه.. وفي قلبه حنين إليه: احبك يا موت حتى النخاع.. لكن دعني أحبو إليك على مهل .. لأن رائحتك.. لمس محبة.. يرد عليه الموت.. في اجتياز زمنه.. قائلاً: من أنت.. أنا رأيتك.. وما رأيتك في وجوه السابقين..فمن تكون؟! أنا ذلك المواطن الفقير، الذي قضى عمره في خدمة الوطن ثماني عشرة ساعة يوميا، يرى زوجته ساعتين، وينام أربع ساعات فقط.. الوطن عنده صمود وعشق وفداء ومحبة مثلك يا موت، كان يفطر بخبزة شعير وينام على الحصير حتى لا يرهق الوطن ولا يبذر أمواله..يرفض أمثال السفاحين والمناشير طالع، نازل.. لا يشبع..يلبي حاجيات الناس طيلة خدمته.. لا يمل ولا يكل..يحفظ أناشيد الوطن ويبكي على الوطن ويغفر لعثرة أبنائه.. ويهب للوطن من وقته ساعة للتصدي أمام متطرفين يحاولون المساس بتراب وطنه.. وهتك حرماتها. أرجوك يا موت خذني بسرعة.. كي أرتاح وأنام أضعاف وقت عملي وخدمة وطني.. سامحني على كل هذا الجنون وتعال على جسدي.. أحب جنون الحب فيك.. سئمت كل قواميس البطش والعقول الممزقة من صحوة العزة والكرامة.. أريدك موجة قوة، كي تغرقني في قاع البرزخ المظلم.. أغرقني تحت تراب جاف.. متيبس، وأمسك نبضة واحدة من قلبي، دعني أنسَ كل المتربصين.. اللعنة عليهم جميعا.. من أي اتجاه حضروا.. لأنهم يفسرون القانون كيفما شاؤوا.. يريدون من القانون ان يسير وفق خزعبلاتهم..فهم يقولون..ان الحرية تنتمي إليهم فقط.. ولا يعلمون أن الحرية تنتمي لكل عشاق الأرض. اللحظة أراك يا موت وطني الحقيقي.. وأراك في وطني ذلك المخلص الذي لا يخلف وعده.. لكن لا أعلم من أين تأتي.. ربما من فوق.. من على يساري.. من على يميني.. مباشرة تواجهني.. أم فقط أحسك أنك آت قريباً!! سامي حسون [email protected]