يعطي البعض أنفسهم حق الإفتاء في أمور الأناقة والأزياء، باعتبار أنهم «قمة» في الحلاوة ومواكبة العصر.. وفي دنيا الرجال عموما تبقى موضة الأزياء ثابتة لا تتغير ولا تتجدد لعشرات السنين أو لعدة قرون... البنطلون هو البنطلون منذ عصر ما قبل نابليون، والجلباب هو الجلباب منذ عصر أبو نواس وزرياب، في الجزيرة العربية ومنطقة الخليج يسمونه «ثوب»، بينما عندنا في السودان الثوب هو تلك القطعة الطويلة العريضة المزركشة التي تتلفح بها المرأة السودانية.. وفي السودان ومصر نسمي الجلباب جلابية، رجالية كانت أم نسائية، وربما يقابل هذه الكلمة في العامية الخليجية نفنوف (ولفظها قبيح مثل بلاليط التي تطلق ظلما على الشعيرية الرشيقة).. ربما كان السودانيون هم الوحيدون الذين أضافوا جديدا الى الجلابية، باختراع ذات الاتجاهين (رايح- جاي): تدخل رأسك في الفتحة العلوية كيفما اتفق و»تطلع الحكاية صح»، فهي مزودة بجيوب على الوجهين، وقد ابتكرها أنصار المجاهد السوداني الراحل محمد أحمد المهدي الذي طرد الاستعمار التركي من السودان خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، واتخذ من مدينة أم درمان عاصمة له بدلا من الخرطوم، ولا تزال أم درمان تحمل عبق وأريج تلك الثورة الوطنية الفريدة، ففيها حي بيت المال (حيث كانت وزارة المالية المهدوية) وحي الملازمين (حيث كان يقيم من لازموا خليفة المهدي واسمه عبد الله التعايشي)، وفيه المسالمة (الحي المخصص للمسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام).. المهم كان جيش المهدي يتألف من متطوعين، لا يملك الواحد منهم غير جلباب واحد مرقع ولهذا أسماهم الانجليز بالدراويش.. وخلال المراحل الأولى للثورة كان المهدويون يتعرضون لهجمات مباغتة من الجيش التركي، وكان ذلك يتطلب الاستنفار وحمل السلاح على وجه السرعة، وفي وجود جلابية ذات اتجاهين (يسمونها في السودان جناح أم جَكُّو وهي كلمة عبثية مثل خرنق التي ابتكرها عادل إمام فصارت تعني غبي).. في وجود جلابية كهذه لم يكن واردا ان يخطئ أي شخص في ارتدائها بالطريقة الصحيحة... والشاهد هنا هو أن التمسك بزي معين على مدى قرون، ربما كان السودانيون هم الوحيدون الذين أضافوا جديدا الى الجلابية، باختراع ذات الاتجاهين (رايح- جاي): تدخل رأسك في الفتحة العلوية كيفما اتفق و»تطلع الحكاية صح»، فهي مزودة بجيوب على الوجهين. يعتبر في حد ذاته موضة، ولكن ليس بالتعريف الضيق للكلمة، الذي يتبناه الذين يحسبون ان الموضة هي التجديد كل بضعة أشهر. من الأشياء التي تحزنني أن الثوب النسائي السوداني ذا الألوان الزاهية (ابن عم الساري الهندي)، في طريقه الى الاختفاء، فجيل الشباب من الفتيات هجر ذلك الثوب لأسباب منطقية: لأنه غالي الثمن ويعوق الحركة في بيئة العمل.. مما سيسبب نكسة للاقتصاد السويسري!! هل تصدق أن هناك مصانع في سويسرا متخصصة فقط في إنتاج الثياب النسائية السودانية؟ نعم الثوب النسائي والجلباب والعمامة غير مريحة في معظم بيئات العمل، ولكن اختفاءهما يعني اختفاء واندثار ركن مهم من أركان «ثقافة الملابس» في السودان.. كيف؟ أجب أنت.. ولأساعدك على التوصل الى إجابة اسأل نفسك لماذا تنظر المجتمعات الخليجية شذرا الى الشاب الذي يلبس البنطلون مع القميص او التي شيرت؟ وإذا سقط العقال من رأس أحدهم قيل له: شرفك طاح؟