في الوقت الذي تتوارد نصوص الشريعة الإسلامية على ترسيخ معاني الوحدة الإيمانية، والدعوة إلى الائتلاف والتعاون وترك الشقاق والخلاف، وجعل شعار الوحدة شعارا خالدا ومبدأ عظيما "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون"، نجد أن الكثير يعمل معاكسا حالة الدعوة الإلهية لهذا المبدأ الرباني، فهو يقر في أصل الاجتماع والوحدة، ولكنه في نفس الوقت يرى أن الناس لا بد أن تتمزكز حول ذاته العلية حتى تحقق هذه الوحدة والاجتماع، ثم يضع الشروط والضوابط الخاصة التي من خلالها يفرز الناس ذات اليمين وذات الشمال، فيصبح جو الدعوة والعلم والإصلاح دافعا إلى المزيد من الشقاق والخلاف والتشرذم، بدلا من كونها أجواء تدعو إلى السماحة والوحدة والألفة بين المؤمنين، ويصبح العلم الذي هو هداية ورحمة للعالمين ميدانا لنصب المشانق البشرية التي يعلق فيها كل مخالف، تفننا بأنواع الأصناف والألقاب التي تفرخ باليوم والليلة، وقد أخبرنا الله تعالى عن بني إسرائيل أنهم لم يختلفوا "حتى جاءهم العلم بغيا بينهم"، وهذا البغي والظلم والعدوان والكذب والتصنيف يكاد يكون هو المشهد السائد الذي يشكل الفضاء الفكري والدعوي، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"، وقد جعل الكثير من الناس نفسه مندوبا مخلصا للشيطان، يحرش بينهم، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء راكبا أنقى راية، وأعظم طريقة، ألا وهي طريقة العلم والدعوة وحفظ حمى الإسلام والاحتساب على المخالفين. إن هذا الجو المشحون هو الذي يسبب النفور لدى الكثير من الناس عن الدعوة وأهلها، حين يدرك البعض بأنه سوف يفقد سلامة صدره، وحسن نيته بالناس، فيلج إلى عالم الغيبة المحرمة، والخوض في أعراض الناس وأديانهم تكفيرا وتبديعا وتفسيقا، والحكم على النوايا، وتشطير المجتمع إلى حزب فجار وحزب أبرار، حتى يسود في المجتمع حالة من التوتر والتحفز إلى المعارك الفكرية، وتصعيدا لحالة التباغي الذي نشهدها في الصباح والمساء. إن تشويه الإسلام ليس مستغربا من أعدائه، فهم يمكرون مكر الليل والنهار لصرف الناس عنه وعن تعاليمه وقيمه، ولكن المشكل الحقيقي حين يأتي هذا التشويه للإسلام من حملته ودعاته، فيكونون فتنة للناس عنه، وعزوفا عن تعاليمه، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من الناس "منفرين" عن الدين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس إن منكم منفرين"، قالها حين أطال أحد الصحابة الصلاة في جماعته فسبب ذلك ضيقا فيهم، فكيف يقال لمن جعل معنى الانتساب إلى الإسلام والدعوة إليه ميدانا كبيرا للخصومات والفجر فيها، ومراقبة الناس ومحاسبتهم في الدقة والجلة، وتخونهم في تصرفاتهم وأعمالهم، وحملهم على العسر لا اليسر، والطعن في أديانهم وأعراضهم بأقل مخالفة، وتزكية النفس والذات والشناءة على الآخرين، ورميهم بالعظائم بسبب خلاف محتمل، ومسألة اجتهادية أو خلافية لم تحسم في القديم ولن تحسم في الحديث. إن الإنسان وهو يكتب في هذه الأجواء كأنه يسير في حقل ألغام لا يدري متى ينفجر فيه أحدها، متوجسا من حركة "الرصد" للأحرف والكلمات، جو يقدم المعنى الفاسد ولو كان يجد ألف محمل للمعنى الحسن، ومستعد دائما لحملة بل لحملات من التشويه والإسقاط والتحريض، هذا الجو الذي يكبل الكلمة الصادقة أن تخرج لترى النور، فيعاني من إرهاب أشد من السجن والسلاسل والأغلال، إنه إرهاب الفكر والكلمة التي تخترق النفوس والضمائر فتفتك فيها، فإن النفوس النقية هي التي تؤثر فيها كلمات البغي، وتدل على أنها شفافة يعكرها جو البغي والعدوان، وقد عانى النبي صلى الله عليه وسلم من قومه، فحين خرج من الطائف بعد أن آذوه سار على وجهه فلم يفق إلا وهو في قرن الثعالب مما وجد من وقع الكلمات والتصرفات تجاه كلمته الربانية التي تدعوهم إلى النجاة ويدعونه إلى النار. لقد أصبح "التصنيف" ثقافة يتربى عليها الصغار والكبار، وسلوكا له مدارسه التي تبتدع كل يوم صورا جديدة منه، وكل حزب أو طائفة تحصن نفسها بشعارات قدسية، بينما تحشر الناس في زوايا من الألقاب المنفرة، والأوصاف المخرجة من السنة تارة، ومن الملة تارات، بينما نجد تعاليم الإسلام، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم تدعو إلى إحسان الظن بالناس، والبراءة من الطعن فيها بل الدعاء بنزع الغل من القلوب (ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا)، وقد جعل علماء الإسلام "حفظ العرض" من الضرورات الكبرى التي جاءت الشريعة لحمايتها، فإذا كان الطعن بالأعراض موبقة وكبيرة، فإن الطعن في الأديان أشد جرماً وخطورة، بل إن تكفير المسلم كقتله كما جاء في الحديث الصحيح. إننا بحاجة إلى سن قوانين تحمي الناس وأديانهم من أن تنتهك من قبل المولعين بالتصنيف والتكفير، وهذا معنى تتشوف له الشريعة وتعاليمها، فإن كان الرادع الإيماني والأخلاقي لا يردع البعض عن الجرأة على الناس وأعراضهم وأديانهم، فإن القانون العقابي والجزائي كفيل برد عدوان المعتدين، وحفظ كرامة الناس من عبث العابثين. إن المتابع لعالم الإنترنت ليدرك حقيقة حجم الكارثة، حين يلج إلى تلك المواقع التي تشبه المسالخ، جهود مبذولة تصرف عليها أوقات طويلة، وأموال طائلة، وجهود فكرية وعلمية كلها متوجهة إلى محاربة فلان، والطعن في علان، والشناءة على ذاك، وهي سمة عامة في كل التوجهات الفكرية والدعوية لا يستثنى منها أحد إلا القليل، وكأن هذا السلوك ماركة مسجلة باسم أبنائنا، حين تعمل العقول الباطنة في تلك المواقع فتخرج غلواء نفوسها، حينها يضع الإنسان يده على قلبه خوفاً على السلم الاجتماعي من هذه الأفعال التي يتسلل من خلالها كل من يريد النيل من هذه البلاد حكومة وشعبا، وإثارة النعرات والتحزبات، وتهديد الأمن والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد، ولا يمكن مواجهة هذه الظواهر إلا ببث المزيد من الوعي، وترسيخ القيم الأخلاقية في المناهج، وإبراز دور العلماء في الوحدة وجمع الكلمة، والوقوف صفا واحدا في وجه من يحاول خرق السفينة بهذه الممارسات التي سوف ترتد علينا جميعا وعلى أمننا واستقرارنا وسلامة مناهج أجيالنا القادمة.