في عديد من مقالاته اللامعة أفرد الصادق النيهوم يرحمه الله مساحة جيدة للحديث عن دور الجامع ووظيفته في المجتمع، وعن الفرق الفلسفي بينه وبين المسجد، تذكرت ذلك بُعَيد خروجي من أداء صلاة الجمعة بجامع أو بالأصح بمسجد حَيِّنا، الذي وليست المرة الأولى التي أُدهَشُ فيها لسماع تلك الخطب المُكررة، كما لا يقتصر الحال على مسجدنا الجامع، بل يكاد يكون هو الغالب الأعَم على غالب مساجد مناطق المملكة، تلك الخطب التي لم تحمل في طياتها أي فكر جوهري جديد، بل لا تفتأ تُردِّد جُملا مسجوعة تحمل في دواخلها كمًّا كبيرا من التحذير، وتُسَلط الضوء بشكل دائم وواسع على مساحة المُحرَّم في حياتنا، حتى ليُخَيَّلُ للمرء أن مساحة التحريم في شريعتنا هي القانون الأعَم، على الرغم من أن مساحة المُباح هي الأعم والأغلب؛ خُطَبٌ تتنزل عليك بلغة آمرة، وكأن ما تطرحه مُسَلّم به عند جميع العلماء، وأن ليس للإنسان إلا أن يُجيبَ ويُذعنَ حتى لو كان فحوى الأمر مخالفا لطبيعة الأشياء ومنطقها السليم؛ خُطَبٌ لا تُقدم أي حُلول علمية ومهارية وسلوكية أمام ما تطرحه من مُعْضِلات وقضايا نفسية واجتماعية، فتترك المُستمعين في حَيصَ بَيص، مُشوَّشة أفكارهم بين هَمٍّ قد سمعوه، وواقع قد ألفوه، مكتفية بجرعة كبيرة من الإرشاد الوعظي العام. فهل هذه هي غاية المقاصد الربانية من تشريع خطبة يوم الجمعة؟ أجزم يقينا بأن كثيرا من أبناء مجتمعنا (ذكورا وإناثا) يتمنون لو يتغير رِتْمُ أداء خطبة الجمعة لتخرج عن إطارها التقليدي، وتصبح مادة تتطور معارفهم من خلالها بعلم نافع جديد، وتَتقدَّم مهاراتهم المعرفية عبرها بفكر منطقي لا تشوبه شائبة، والأهم أن تتطهرأرواحهم حال سماعها بإيمان يَغلبُ على ملامحه الرحمة والعفو والتسامح، لا أن تتصفد أرواحهم في كمٍّ كبير من الأغلال والقيود التي صنعها الإنسان لنفسه خوفا وتحسبا . وما أجمل ونحن في هذا الصدد لو يتم تحديد صلاة الجمعة في كل مربع سكني واسع بجامع كبير مُعَيَّن، ترتبط به مكتبة ثقافية، ومركز تدريب، وقاعة عامة للاجتماعات والمناسبات العامة، جامعٌ يجتمع فيه الكلَّ لأداء صلاة الجمعة والاستماع إلى خطيبه المختار بعناية، ليُقدِّم لهم دورة تدريبية مُصغرة في أمور حَياتهم، يطرح عليهم المشكلة المعاشة حاليا ويقترح حلولا لها تتلاءم مع طبيعة واقعهم وأسلوب حياتهم المعاصرة، يُنمِّي فيهم قيم المحبة والتراحم والمغفرة وكل شيء جميل، فالله جميل يُحب الجمال، والله غفور وسعت رحمته كل شيء . أليس لو يتحقق ذلك فعلا، سنتمكن كمجتمع من الاستفادة الفعلية من خطبة يوم الجمعة ! لكون من سيتولى أمرها ليس من أولئك الموظفين المَطبوعين بفكر مُحدَّد، ممن لا يسعهم الخروج عما هو مكتوب، أو التحرر من قيد الذهن وعِبء المعرفة، بل سيكون من أمهر المتخصصين في علم النفس وإدارة المجتمعات، وأقدر العارفين بخصائص الإنسان وطبيعته السلوكية، ناهيك عن اختيار أفضل علماء الشريعة ممن أدركوا حقيقة مقاصدها، وفهموا أن جوهر علمهم يُحتِّم عليهم أن يكونوا دعاة لا قضاة، وهداة لا منفرين. بقي لي أن أقول بأن ما دعاني إلى الكتابة في هذا الأمر، واقتباس عنوان أحد مقالات الصادق يرحمه الله، راجع إلى قيام خطيب جمعة مسجدنا الجامع يحفظه الله بالتحذير إلى حد التحريم من السفر إلى الخارج بالمطلق، حتى لو كان إلى بعض الدول العربية المجاورة، لما يسود فيها من منكرات وتُمَارس فيها مختلف الآثام؛ تساءلت لوهلة: لو كان رأيه هذا حقا مطلقا، كيف سيكون مآل كل من أصَرَّ على ارتكاب هذا النوع من المحرم بحسب رأيه، وسافر بأهله وبنيه بغرض السياحة والترفيه بما أحل الله وأجاز؟!