نحن لا نختلف في أن شباب الأمة قد فاجؤوا جميع قياداتها على اختلاف ألوانهم ومواقعهم بما أظهروه، و قدَّموه من وعي وعزيمة وإصرار وتضحية، بل إنهم تجاوزوا بسرعة خاطفة كثيرًا من الأفكار والأساليب الإصلاحية المطروحة، وفتحوا آفاقًا جديدة للتغيير والأمل والكرامة، وأنا شخصيًّا ألمح في ذلك توفيقًا وعونًا ربانيًّا ظاهرًا ومبشرًا. وبعد أن خطف الشباب راية القيادة والريادة حاول كثير من القيادات الركوب بالعربة الأخيرة من قطارهم، وكان لهم ذلك، وهنا يؤسفني القول: إن معظم علماء سورية وطلاب العلم الشرعي فيها لم يتخذوا موقفًا واضحًا من الثورة السورية، ولم يساهموا إلى هذه اللحظة بأي جهد ذي قيمة في مناصرتها، وقد عصر قلبي الألم حين اطّلعت على (لائحة الشرف) التي كتبها الثوار، فلم أجد فيها سوى سبعة أو ثمانية من علماء سورية، على حين أني وجدت فيها أسماء العشرات من الفنانين وكتاب (السيناريو) ومخرجي الأعمال التلفزيونية! ولعلي وأقول: إنه يمكن تقسيم علماء سورية بحسب مواقفهم من الثورة إلى أقسام: 1 الأغلبية الساحقة والتي تتجاوز ال (80%) لم يشاركوا في الاحتجاجات، ولم ينطقوا بكلمة، أو يخطّوا حرفًا حول ما يجري في البلاد، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد. 2 هناك فئة قليلة جدًا قد لا تساوي 3% من مجموعة أهل العلم كان لهم موقف مشرِّف في استنكار التنكيل الذي تمارسه السلطة ضد الناس، كما أنهم طالبوا بالإصلاح، وبعض هذه الشريحة الفاضلة جهر بموقفه مرة واحدة، ثم انحاز إلى الأغلبية الصامتة والمنعزلة. 3 في سورية مجموعة أقل من المجموعة السابقة، لها نوع من الحضور الإعلامي، وتملك من الإخلاص والوعي ما يمنعها من قول الباطل، لكنها لا تملك من الشجاعة ما يجعلها تقول الحق؛ فهي ممن يتكلم كثيرًا، ولا يقول شيئًا، 4 بعض أهل العلم في سورية يسيطر عليهم الخوف من الفتنة ووقوع البلاد في حرب أهلية أو فتنة طائفية، وهم إلى جانب هذا قد سمعوا وعودًا بالإصلاح، فهم يأملون أن يحدث التغيير المنشود من غير خسائر، وبعض هذه الفئة من يمكن أن نصفهم بالمخدوعين الواقعين تحت تأثير دعاية النظام، ولهذا فإنهم من دعاة التهدئة والانتظار. 5 الشريحة الأخيرة انحازت إلى النظام على نحو سافر؛ فأنت حين تستمع إلى واحد منها تشعر بأنك تستمع إلى رجل من داخل النظام، فما يجري في البلاد حسب قولهم عبارة عن استجابة لتحريض خارجي، وما يقوم به المحتجّون مدفوع الأجر! وأودّ أن أقول في التعليق على هذه الحالة الآتي: 1- إن من الواضح أن الثورة في سورية لم تحظ بما يكفي من القيادات، ولاسيما القيادات الشرعية وهذا مفهوم تمامًا؛ فخطوط الإنتاج التي تخرِّج القادة الأفذاذ خُرِّبتْ منذ عقود، وصار من يمكن أن نسميهم بالقيادات الفذّة قليلين إلى حد بعيد. 2- أنا مؤمن أن الإنسان في نهاية المطاف هو ابن ثقافته، ومن المعروف أنه ليس في الثقافة المدرسية لطلاب العلم الشرعي في سورية أي قدر من التثقيف السياسي أو الإداري، كما أن الأغلبية العظمى منهم لم تمارس أي نشاط سياسي، وهذا يجعلهم عاجزين عن مواكبة الأحداث التي فجَّرها الشباب العربي خلال هذا العام. 3- الثقافة الحقوقية لدى معظم طلاب العلم الشرعي ضعيفة للغاية، ولهذا فإنهم في أحيان كثيرة يستجدون من النظام ما هو حقّ ثابت لهم، وينظرون إلى أدنى شيء يحصلون عليه على أنه غنيمة عظيمة، وهذا جعل علاقتهم بالنظام علاقة من لا حول له ولا طول بمن يملك كل شيء. 4- كثير من العلماء يعرفون النظام على نحو جيد، وحتى يتّقوا شروره ويحتفظوا بالهامش الضيّق من التحرك الدعوي والإصلاحي الذي جاد به عليهم، فإنهم يجدون أنفسهم منخرطين في مديحه والثناء عليه والدفاع عن قضاياه، ويعدون ذلك من باب (التكتيك) و( المناورة) المشروعة، وأنا أعتقد أن ذلك مشروع إلى حدود بشرط أن يكون في إطار استراتيجية واضحة في ذهن من يفعل ذلك، ف(التكتيك) يتحول إلى تخريب شديد ما لم يكن في إطار استراتيجية جيدة، و أعتقد أن الرؤية الاستراتيجية غير موجودة لدى السواد الأعظم منهم، كما أعتقد أن كل الأعمال الإصلاحية على الصعيد السياسي تستهدف إقامة نظام حكم يخاف من ممثلي الشعب، ويستمد سلطته من الأمة، إلى جانب إمكانية التخلص منه من غير إراقة دماء. 5- إن الاحتجاج السلمي على الظلم والسلب والنهب والكبت هو من إنكار المنكر باللسان، وكان المتوقع من أهل العلم أن يكونوا في المقدمة؛ لأن نظام الحكم في سورية من أسوأ النظم السياسية على مستوى العالم على مقتضى ما تنطق به أرقام المؤسسات الدولية في كل مجال. 6- كثير من أهل العلم في الشام يستندون في تقييمهم للواقع ولآفاق الخروج منه.. إلى رؤية قديمة تمّت بلورتها في عصور الفتن السوداء التي عصفت بالعالم الإسلامي قرونًا، وأظن أنهم في حاجة إلى تجديد تلك الرؤية في ضوء ما تراكم من خبرات عالمية عظيمة على صعيد الحكم الرشيد، وعلى صعيد مقاومة الظلم وإدارة الأزمات الكبرى، ومن الملاحظ في هذا السياق أن كثيرًا من العلماء الأفاضل في الشام ينظرون إلى شخص رأس السلطة فقط، والذي تمنحه الدعاية السياسية نوعًا من التأليه والتقديس؛ حتى يسهل انخداع الناس به. وهذه هي النظرة الفقهية القديمة، أما اليوم فإن النظر يتمحور حول النظام بأكمله وليس حول شخص أو شخصين من قياداته، والنظام في سورية مصنَّف في نظر السياسيين على أنه من النظم القليلة في العالم التي مازالت تتمسك بمنهج (استالين) في الحكم، وهو منهج يقوم على الوثنية السياسية والتمسك بالسلطة إلى الرمق الأخير، والمركزية الشديدة والقمع والاستخفاف بالناس إلى جانب الدعاية الإعلامية الفجّة.. إن القطار لم يفت بعد، وإن على كل واحد منا أن يتذكر العهد الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم من الجهر بالحق ونصرة المظلوم ومحاصرة الشرور. الشباب في سورية يكتبون اليوم أروع صفحات المجد والبطولة، والتضحية، وهم في حاجة ماسّة إلى أهل العقل والحكمة والرؤية السديدة الذين يساعدونهم على الحفاظ على سلميّة الثورة، ويوفِّرون لهم الغطاء السياسي الذي يمنح لجهودهم أفقًا محليًّا وعالميًّا واضحًا، ومن أحق بذلك من العلماء الربانيّين؟