انجلت الأزمة المعروفة بقضية (منال الشريف) بكل أبعادها المفتعلة. وانفضت كافة الاشتباكات ومظاهر الصولات والجولات المضخمة. مع كل ما جرى من تدمير ليقينيتها بصحة ووجاهة موقفها؛ لأنها اعتقدت (وهذا اجتهاد شخصي من جانبي) أن خطيئتها عندما قادت سيارتها في أحد شوارع مدينة الخبر – إن وجدت والتي اصبحت من الكبائر بنظر البعض – لن تكتسب كل هذا الحجم من هذه الضجة. فعلاً، سقطت كل الرهانات حول القضية. ولم يبق من لزومها سوى غبارها الداكن. وصدى أصوات المتخلفين، يقذفون كل ما في جعبتهم من حمم قاسية تجاه الحدث وصاحبته وأنصارها من كل الاتجاهات الفكرية. إن الحدث لم يبق منه سوى إفرازات المنابر العلنية وصدى قلة من الشماتين الرداحين، الذين لا يضيرهم التكرار ووجع الآخر، ولا يأبهون لعواقب سلخ جلود من يعارضهم. وفي واقع مثل واقع مجتمعنا، ليس مستغرباً أن يحدث تمترس كل الأطراف خلال هذا الحدث – رغم قصر مدته – خلف مبررات ومدارات تفتقر للشفافية يستخدمون كل أدواتهم الحادة للذود عن قناعاتهم.. وكل جانب يعدُ بالويل والثبور لمن لا يتفق مع مواقفه. وجُل المفردات المشاغبة تتمحور حول الشخصية المعذبة متغافلة الموضوع. وتأتي مرتكزات الحوار الحضارية مفتقرةً للكياسة مصوبة نحو الشخوص مباشرة. مع أن (التقويس) يفترض أن يكون نحو الحدث في إطار الترفع عن زلات اللسان والقذف والقدح والذم والتطاول على الغير. وإذا كانت صفحة أزمة هذه الشابة، قد طويت وغدت من الماضي وتركنا الأزمة خلفنا، وبقيت كحدث زمني مركون بمخزون الذاكرة. ولم يبق منها سوى استخلاص الدروس والعبر.. فهنا يمكن القول إن أهم ذلك، أننا عبر نقاشاتنا وحواراتنا، أثبتنا أن مبادئ حوارنا رخوة تفتقر إلى المعاصرة. مجرد أوهام وظواهر صوتية. إنها مجرد مفاهيم لم تنضج أرضيتها الصلدة بعد، قائمة على أسس تراكمية بمظاهر تاريخية مزمنة. ديدنها الاصطفاف الفئوي. ومقاييسها الاجتماعية تنوء بمنحدرات سرمدية سحيقة في منزلقات الماضي، لا تخلو من التأثر الأعمى والفزعة الجاهلية. كان مشهد الحوار بائساً يشي إلى حالة انقسام مجتمعي حول اشكالية خلافية لا تستحق كل هذا التحشد الفئوي.. باعتبار أن هذا الحدث لا يرقى إلى كل هذا العناء والمشقة. وإلى كل ما صار من تشطيب ومحاولة استئصال للطرف المقابل. لذلك صارت رعودنا وصواعقنا مخيفة، من جراء زحفنا على بطوننا نحو مسائل خلافية ثانوية (قابلة للخطأ والصواب) مع أنه يمكن بتدوير الزوايا، الوصول إلى تفاهمات بدون هذا (الماراثون الطويل) من الأذى.. هكذا تتجلى مظاهر التباين تحت مظلة قيم اجتماعية معيقة. في مواقفنا عامة، نؤكد تجاه هذا الحدث وغيره من الحوادث المماثلة مقولة الكاتب الياباني (نوباكي نوتا هارا): "أننا كعرب ننشغل بفكرة النمط الواحد" . وفي هذا المجال يمكن اضافة أننا نخاف من التغيير ولا نثق بالمجهول. لقد استأصل التاريخ من عقولنا روح التكيف مع الجديد. وقتل بنا روح المغامرة والتجديد. ودفع بنا إلى التوقف عند حدود النقل والتلقين، مهما تغيّرت الظروف وتجدّدت الحالات الموضوعية.. لذا نفضّل البقاء دائماً في الظل. وإذا كان حدث قيادة هذه الشابة للسيارة قد فجّر العديد من الأسئلة. وطرحت خلاله جملة من الفعل ورد الفعل، مشحونة بالكثير من الاتهامات الصلفة، بلغت حداً لا يطاق من التسويف والنمطية والحدة في الحوار، لدرجة الملل والحذر من كل ما طُرح. هذا مع ما قيل، وما كتب من مقالات لا حدود لها.. حيث تناول الكل المسألة من منظوره الذاتي. مع كل هذا يبرز السؤال الملحّ متمثلاً بالاستفسار عن النتيجة (؟!). (بشكل عام) قد يكون موقفي. تجاه قيادة المرأة للسيارة يتماهى مع الذين لا يعتبرون هذه القضية من أولويات العمل المجتمعي وفعاليات النخب والنشطاء. لأنها مسألة خلافية بدلالات ونتائج نسبية وقابلة للحل. نظراً لوجود قضايا لها طابع الأسبقية عليها قياساً بمدلول الأهمية. وحتماً، لو أنجزت هذه القضايا على صعيد المجتمع، فسنجد أنفسنا تلقائياً قد أزحنا العوائق والمُحبطات، ودلفنا إلى حيز النقطة المهمة المتعلقة بقيادة المرأة للسيارة. وبغض النظر عما قد يحدث مستقبلاً في هذا الإطار. فهناك من يرى أن الموقف له أبعاد أخرى. وفي إطار التقييم، هناك من يقف (مع الخيل يا شقرا) يستجيب للضجيج والصدأ.. مع ذلك – وبشكل عام – السؤال يبقى كيف يمكن التصالح مع الذات ومع الآخر تجاه أية مسألة تخص المجتمع؟ .. بالمجمل وللخصوصية النادرة لواقعنا، يبدو أنها عملية معقدة وليست متيسّرة، لما لمفهوم التصالح من ترابط وثيق مع الاشكالات الاجتماعية، ولصلتها بالتطوّر الحضاري والوعي الخاص والعام. ولما لها من أبعاد سياسية. وأمام هذا المشهد ليس لنا سوى الجد والصبر.