تمثل رسالة الرئيس الأميركي باراك أوباما للقيادة الإيرانية، في عيد النوروز، ذروة الانتقال إلى نهج «تصالحي»، مع نظام طالما اعتبره المحافظون الجدد، العدو رقم واحد. والرسالة من حيث دلالاتها السياسية واحدة من أنجع طرق الدعوة إلى الحوار وطرق أبوابه بقوة، وتجاوز «ورش التفكير» التي كان ديدنها تغييب أي رؤية أو تحليل موضوعي للواقع الإيراني، على رغم أن الإدارة الأميركية كانت الأشد حضوراً في إيران قبل الثورة، وهي التي أسهمت بفعالية في البرنامج النووي الإيراني. وعلى رغم ذلك الحضور الشديد، لم تر واشنطن شيئاً قادماً من واحد من أهم أحداث القرن العشرين السياسية (ثورة شباط/فبراير 1979 الإسلامية). وإذ يقرر كتاب «إيران... الثورة الخفية» أنه خلافاً للظواهر، فإن المسألة الجوهرية هي أن إيران بلد في ذروة تطور لم تجمده الثورة، هذه الطفرة أفضت إلى تصادم «الحداثة» والتراث، الرؤية الدينية وفصل الدين عن الدولة، المطالب الديموقراطية والاندفاعات الديكتاتورية، حرية التعبير النسبية والتعديات اللفظية على حقوق الإنسان، المطالب الفوضوية والنظام الأخلاقي، إرادة التطبيع في العلاقات الدولية وصعوبة طي صفحة الإرث الثوري.. وما شابه. ولا شك في أن ثمة شكلاً ازدرائياً يكمن وراء الرغبة في اختزال حضارة وثقافة بمثل هذه العراقة والتعقيد، في رؤى تبسيطية، يمكن أن نورد حول إيران ما قيل بحق في فيلم «الإسكندر» لأوليفر ستون، حيث يؤكد أن المسألة الأبدية للعلاقات بالشرق هي المطروحة، لكنه شرق مختزل في الصورة الهوامية، أنشأها منذ قرون الغرب المنتصر، أيّ الصحارى والأقوام التي سيتمكن الفارس الغربي المغوار، بقوة أسلحته وبقوة اقتناعه بنموذجه السياسي، من دفعها إلى طور من الحضارة حيث سيزال التباين والتنوع؟ إلا أن مؤلف كتاب «إيران... الثورة الخفية» ل« تييزي كوفيل» آثر عملياً اعتماد مسار معاكس، فهو يود الإسهام بتواضع في فهم أفضل لإيران اليوم ولتحولاتها، لتناقضاتها، كيف نحلل النظام السياسي السائد منذ الثورة؟ بأي معنى هو حقاً إسلامي؟ كيف يتصور العلاقات مع العالم الخارجي؟ لماذا بقي هذا المجتمع عينه واقفاً على رغم كل تلك التوترات؟ لماذا وكيف «تحدثن» المجتمع؟ كيف نفسر تعايش وضع اقتصادي مأزوم منذ الثورة مع وجود موارد طبيعية وبشرية هائلة؟ ما هي سبل التطور المتاحة على الصعيد السياسي؟ وإذا كان من البيّن أن أجوبة هذه الأسئلة لا تزال بعيدة من أن تكون شاملة ونهائية، فإن ما ينبغي إدراكه في المقام الأول أن إيران لا يمكن اكتناهها بالبعد الديني وحده، مهما كان مهماً، ثمة قيم أخرى مثل القومية أو الثقافة الإيرانية العريقة، تسهم في تماسك المجتمع، فهذه الموروثات متمازجة بدقة، بحيث يصعب التفريق بينها. من هنا يمكن القول أن شعبوية الرئيس محمود أحمدي نجاد الاقتصادية وممارسته الدينية وراديكاليته في معارضة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، استطاعت أن تجر الكثيرين من أفراد الطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً، إلى البقاء خلفه، على أن صفوة القول - بحسب المؤلف – أننا نرى إلى أي حد خدمت الأزمة النووية والعدائية المعلنة تجاه البلدان الغربية، مصالح نجاد. ولأن الأولوية للشعارات القوموية على حساب تلك الإسلاموية، فإن أكثرية المجتمع الإيراني تدعم موقفه من النووي، وأن التيارات المحافظة تدعم سياسة خارجية رفعت مجدداً، بلا ريب، نفوذ إيران في العالم الإسلامي، وتالياً فإن هذا الممثل ل«حزب الله» يوطّد حكمه باللعب على القوموية وليس على الإسلاموية، وأن الانتقادات الداخلية تأتي في المرتبة الثانية. وعليه فإن محمود أحمدي نجاد هو أولاً ممثل التركيبة القوموية المتطرفة للنظام الإيراني، حيث نستكشف القادة الرئيسيين لحراس الثورة ونزعة النظام الظاهرة منذ الحرب ضد العراق إلى الاستعانة بالقومية لتعزيز شرعيتها. ولهذا تحديداً لم تتوصل إيران إلى أن تصبح زعيمة ثورة دائمة. فقد كان النظام متذبذباً على الدوام، بين إرادة معلنة لتدويل الثورة، وبين هاجس المصلحة القومية، كما أن تماهي الشيعية بالقومية الإيرانية، أفضى أيضاً إلى أن الحركات الإسلامية السنية لم تنضم أبداً وحقاً إلى خطاب طهران الأممي. ما وضع إيران واقعياً أمام استحالة خلق حركة إسلامية ثورية عالمية، كان يفترض أنها قائدتها، فوجدت نفسها تدريجياً في عزلة على الصعيد الدولي. المثل الأكثر إثارة حول هذا الفشل كان صمت العالم الإسلامي، باستثناء سورية عن الحرب العراقية – الإيرانية. ويخلص تييرّي كوفيل مؤلف الكتاب الصادر عن «دار الفارابي»، وترجمه د. خليل أحمد خليل، إلى أن استمرار النظام الإيراني كل هذه السنوات، لا يعود إلى عامل الشرعية الدينية أو القومية خصوصاً، فضلاً عن أن هذا النظام وممانعته تعود إلى قدرته على استعمال حوافز أخرى، أولها ما لا يمكن إنكاره، ألا وهو وجود عدة تيارات داخل النظام، ما سمح له بالتكيف مع مختلف متطلبات المجتمع داخلياً. وخلافاً لما كان الإمام الخميني يتوجس منه، لم يكُ للصراعات الداخلية أية مفاعيل تدميرية على النظام، نظراً لتدخل بعد ثقافي مهم يتمثل بالاختلاف بين ما يسميه المؤلف الخودي (أولئك الذين هم في النظام) وغير الخودي (أولئك الذين يقفون خارجه). من هنا يمكن فهم سبب أو أسباب إبعاد الإصلاحيين من الحكم، كونهم كانوا يريدون إدخال غير خودي إلى النظام. وبالتوازي مع القدرة على تدبير تنوع التيارات السياسية وائتلافها، استفاد النظام أيضاً من قدرته على إقامة نظام مؤسسي، يعمل تقريباً في شكل سوي على رغم عدة انغلاقات (ناجمة من الصراع بين هذه التيارات بالذات). ولئن ناور النظام حالياً على أفضل وجه لضمان بقائه، فلأنه لا مناص له من أن يحسب حساب تحديات ضخمة، يتعلق أولها بالتحول العميق للمجتمع منذ الثورة، ويبدو من الواقعية التذكير بأن ضخامة التطورات الاجتماعية ستفضي إلى جملة متغيرات (ملموسة حالياً) في حياة كل الأيام وفي المسالك الفردية، وهي متغيرات ستقود، عاجلاً أو آجلاً، إلى تطور سياسي قد لا يراه أحد قادماً، فالمجتمع الإيراني في ذروة تحوله هو مسرح مجابهات أساسية: شرعية دينية مقابل شرعية ديموقراطية، ونظام أبوي (بطريركي) مقابل نظام أكثر فردية. والمؤلف الذي عايش وخبر المجتمع الإيراني من داخله لا يكتب ملاحظات عن بعد، وإنما هو يستخلص انطباعاته مستنداً إلى معايشة يومية حثيثة، أوصلته إلى رؤية المجتمع الإيراني في ذروة تحولاته، حيث إن «تحديث» المجتمع هو التطور الأكبر الذي شهدته إيران منذ الثورة. ولا مفارقة في ذلك، ذاك إن النظام السابق قد جعل من «تحديث» المجتمع هدفه الرئيسي، ولكن هذا المشروع كانت غالبية الإيرانيين قد رفضته، لأنه طبق بطريقة استبدادية جداً وحصرية جداً جداً – إذ كان المطلوب إعادة إنتاج أنموذج المجتمعات الغربية من دون أن يحسب حساباً حقيقياً للحاجات الخاصة بالمجتمع الإيراني. بعد الثورة أدت الهيمنة المتزايدة للمجال الديني على النظام السياسي، والإجراءات المتخذة لفرض نظام أخلاقي إسلامي، إلى جعل عدد من المراقبين يرون في النظام الجديد رمزاً للظلامية. مع ذلك حدث تحديث للمجتمع الإيراني لا يمكن تجاهله. لقد قام الإيرانيون بالثورة، وخاب فأل بعضهم من الحصيلة، ولكن قليلون جداً هم الذين يتمنون الرجوع إلى الوراء، لكن في المقابل ثمة تحد لن يتمكن النظام، بلا ريب، من استبعاده مطولاً، هو تحدي مكافحة الأزمة الاقتصادية التي تعطب الطبقة الوسطى، وتقود خصوصاً إلى «تعقيم» الطاقة المذهلة التي يشكلها الشبان الإيرانيون الذين لا يزالون محبوسين في أعمال صغيرة، وهذا ما يؤدي إلى عطب التحول الاجتماعي الجاري، وفوق ذلك، يمكن لعجز إيران عن الاستعمال التام لطاقتها البشرية أن يمنع هذا البلد من أن يصير القوة الإقليمية التي يصبو إليها. بمعنى من المعاني، يتوصل مؤلف الكتاب، إلى الاستنتاج – الضرورة، ضرورة قيام ثورة جديدة، إذا ما أراد الإيرانيون بناء نظام سياسي حديث، وحتى يتجاوزوا تلك الأعطاب التي أصابت الطبقة الوسطى وإعادة تخصيب الطاقة البشرية، بدلاً من إبقائها عقيمة، وحتى لا يبقى التحول الاجتماعي الجاري، خاضعاً لقوى في النظام لا تريد حتى إصلاح ما ينبغي إصلاحه وعلى أي مستوى، قبل أن تبدأ مرحلة من التحولات الاجتماعية، مرافقة لتحولات سياسية لا بد منها، تكفل للنظام الإيراني دخول منطقة ومنطق التعايش مع الحداثة قلباً وقالباً. وهذا دونه ثورة... ثورة خفية أبلغ من تلك الثورة الخفية التي كانت تجرى في ظلال الثورة الإسلامية قبل ثلاثين سنة، والتي قادها المجتمع الإيراني التواق إلى إرساء سُنّة التحديث والحداثة، وتحقيق أكثر المطالب الديموقراطية تناغماً، مع التوطيد المتصاعد لقضايا الفئات الأكثر انحيازاً واحتياجاً للتغيير. * كاتب فلسطيني