الوطن ليس أرضًا تسكنه مجموعات من الناس فحسب، الوطن كلٌ مركب من مبادئ وقيم وتاريخ وعهود وذكريات وطموحات مشتركة يقيم أصحابها في بقعة جغرافية واحدة، وحين يحتل المستعمر قطرًا من الأقطار فإن أسوأ ما يفعله هو أن يهدم الجانب المعنوي من البلد، بتفتيت وحدته الداخلية وقتل المعاني التي تجعل منه وطنًا يشرف المرء بالانتماء إليه. هذا العمل قام به المستعمرون، لكن قدرتهم على احتلال الأرض ونهب الخيرات كانت دائمًا أكبر من قدرتهم على كسر إرادة الشعوب؛ لأن إحساسها بوطأة غزو الأجنبي استنفر لديها كل معاني الصمود والممانعة والتضحية.... فحين حاول الجيش الفرنسي دخول سورية عام (1920م) خرج إليه البطل يوسف العظمة في ثلاثة آلاف مقاتل، وسلاحهم هي البنادق البدائية والعصيّ، وكان عدد الجيش الفرنسي في حدود تسعة آلاف مقاتل مدجّجين بالسلاح، وكان هناك يقين لدى "العظمة" ورجاله بأنهم لن يربحوا معركة غير متكافئة، لكنهم أرادوا أن يخطُّوا للغزاة رسالة غالية الثمن يقولون فيها: قد نموت، وقد نُهزم، ومع ذلك خرجنا لنعلن أن الأوطان العزيزة تستحقّ التضحية، وخرجنا لنطلق شرارة المقاومة، وقد كان ذلك. وجثم الاستعمار الفرنسي على صدور السوريين قرابة ستة وعشرين عامًا، وخرج بعد أن قدَّم السوريون عشرات الألوف من الرجال الأشراف ثمنًا للتحرير والكرامة. اليوم يشعر الجمهور الأوسع من السوريين، أنهم أشبه بركاب طائرة مخطوفة، والخاطفون ليسوا من الإنجليز ولا الأمريكان، إنهم سوريون مثلهم، لكن بين القيم التي يحملها الخاطفون، والقيم التي يحملها عامة الناس من التباين ما يفوق بكثير التباين بين القيم التي كان يحملها آباؤهم، والقيم التي كان يحملها الفرنسيون الغزاة، وتلمس هذا واضحًا في قول الناس: الفرنسيون لم يسمحوا لأنفسهم يومًا باقتحام مسجد أو إطلاق النار على طفل أو الإجهاز على جريح، والأمن الذي يروِّعنا فعل كل ذلك، وأكثر منه، وتعذيب الطفل حمزة الخطيب حتى الموت شاهد على هذا، وتلمس هذا المعنى واضحًا أيضًا في لافتة رفعها بعض المتظاهرين حين قالوا: نرجو من قوات الأمن أن تطلق علينا الرصاص المطاطي عوضًا عن الرصاص الحيّ أسوة بما يفعله الجيش الإسرائيلي مع إخواننا الفلسطينيين! السوريون يثورون اليوم من أجل استعادة سورية المجد والإباء والعدالة والإبداع والنزاهة والرحمة والتكاتف والألفة، وهم يعرفون جيدًا أن مشكلتهم مع النظام القائم تتمثّل في أنهم يخضعون لسلطة نظام لا يثقون به، وكيف يمكن لك أن تثق بمن كذب عليك وخدعك قرابة نصف قرن من زمان، كما تتمثل في اعتقادهم أن النظام يحتقرهم، بل لا يعترف بهم أنهم شعب له حقوق وعليه واجبات. السوريون يعرفون أنهم قد خطّوا مهمة على طريق استعادة وطنهم السليب، وتلك الخطوة تتمثل في جعل النظام يشعر بأنه يحكم بشرًا يمكن أن يثوروا ويحتجّوا، ونتيجة لذلك الشعور بدأ بإطلاق وعود الإصلاح والتغيير، وإطلاق حوارات شكلية مع أناس يختارهم هو في أمور صغيرة لا تمسّ بنية النظام، ولا تلامس الوجع الأساسي للناس. إن استعادة الوطن لن تكون برفع الأجور، ولا بتخفيض أسعار المحروقات.... وإنما تكون بالانتقال من نظام سياسي يمتهن كرامات الناس، ويتصرف بشؤونهم وكأنهم غير موجودين إلى نظام يستمدّ سلطته من الشعب، ويعمل على تحقيق مصالحه وطموحاته. الناس في سورية يدركون جيدًا أن ثمن التخلص من هذا النظام الجائر والبائس سيكون كبيرًا، وهم إلى جانب هذا الإدراك يثقون بأنهم قادرون على دفع ذلك الثمن، كما يثقون أن النصر في نهاية المطاف سيكون حليفهم؛ فقد مضت سنة الله تعالى في الخلق بأن تكون الغلبة للمظلومين المقهورين حين يشعرون بأن قيمة التحرر من الظالمين لا تقل عن قيمة الحياة نفسها. ولله الأمر من قبل ومن بعد.