محمد بن علي المحمود - الرياض السعودية عندما تم الإعلان عن مقتل زعيم الإرهاب ، قائد تنظيم القاعدة الإجرامي ؛ كان السؤال الأهم ، والأشد إلحاحاً على مدار اللحظة الحرجة (اللحظة الحرجة من حيث درجة إلحاح الأسئلة وتوقيتها) ، يتحدد في : هل مقتله ، وهو الحدث الذي هزّ العالم ابتهاجاً ، يُمثّل مجرد نهاية لإرهابي بائس ، تمَّ استهلاكه على المستوى الواقعي وعلى المستوى الرمزي ، أم أن ما حدث يرتقي إلى مستوى النهاية الجدية لظاهرة الإرهاب الديني الذي يعِد بوضعنا في صِدام دائم مع العالم لأتفه الأسباب ؟ كان السؤال الأهم سؤالا حائرا ؛ سؤالًا يحاول ربط الشخص بالظاهرة من جهة ؛ بقدر ما يحاول فصله عنها من جهة أخرى ؛ مع الوعي - في الوقت نفسه - بأن الظواهر مهما كانت مرتبطة بالأشخاص ؛ إلا أنها تبقى أكبر وأعمق وأبقى وأوسع أثرا من الأشخاص . قبل أربع أو خمس سنوات ، لاحظ كثيرون انحسار ظاهرة الإرهاب ، وتراجعها عن كثير من مستويات الإنجاز الدعائي والواقعي ، وأنها لم تعد بحالها التي كانت عليها بعد الحادي عشر من سبتمبر مباشرة . وقد كتبتُ آنذاك عن انحسار هذه الظاهرة في مقال (الأصولية في مرحلة الانحسار) ؛ لأن كل المعطيات الواقعية كانت تدعم الرؤية التي تؤكد هزيمة الإرهاب لا يماري أحد في أن زعيم القاعدة الهالك كان قد احتل مكانة رمزية تتجاوز وجوده الواقعي ، وأنه كان يعكس التجلي الأوضح لأفكار الخوارج في الزمن الأول ؛ مع بعض الاختلاف الذي يفرضه الاختلاف الكبير بين زمنين تفصل بينهما هوة كبيرة من الانحطاط التام الممتد لأكثر من عشرة قرون . إن الخوارج الذين تم التعاطي معهم في فترات طويلة من تاريخنا الوسيط ؛ وكأنهم مجرد أفكار تشظت عن ظاهرة التشدد الديني ، أو حتى كأنهم مجرد كائنات أسطورية تستعصي على التجسد الواقعي ، ظهروا في هذا التنظيم الإرهابي (= تنظيم القاعدة) وكأنهم التجلي الأشد صلابة في واقعنا ؛ ليؤكدوا - بقوة الاستقطاب الواقعي الذي تم لجماهير الغوغاء - أن الخوارج لم ، ولن يكونوا مجرد أفكار متعالية ، بل ولا مجرد تاريخ غابر ، بل هم - إضافة إلى هذا وذاك - واقع يتجسد ويتكرر باستمرار . ببزوغ ظاهرة (-بن لادن-) ، بدأ الفكر الخارجي يأخذ حيّزه في واقعنا المعاصر ، بل وبدأ يكتسب شيئا من الشرعية بمستويات مختلفة ؛ تتناسب مع اختلاف المواقع والظروف . ببزوغ نجمه المنحوس ؛ أصبح للخوارج قيادات معروفة ، قيادات نابعة من صلب الواقع ، قيادات منتمية إلى عالمنا المحسوس ، كما أصبح لهم المكان الخاص (رغم مراوغته على مستوى العالم ككل ، كما على مستوى الوطن الواحد!) ، والأدبيات الخاصة ، إضافة إلى الإعلام الخاص ، أو الإعلام المتعاطف معهم بدعوى الحياد ، وهو الحياد الرخيص الذي يُساوي - مع سبق الإصرار والترصد - بين بُناة المجتمع الذين ينفخون فيه شيئا من روح الحياة بالعلم والعمل ، وبين صُنّاع الموت ، وكبار المجرمين . إن علاقة الرمز الإرهابي (= ابن لادن) بالظاهرة (= الإرهاب) لم تكن علاقة عابرة ولا فاترة ، بل هي علاقة وطيدة ذات بُعد جدلي واضح ؛ إذ بينما تدعم الظاهرة الإرهابية هذا الرمز ؛ لأنها تجد فيه تجسيده الأمثل ، بل والأكثر فاعلية ، نجد الرمز - من جهة أخرى - يمنح هذه الظاهرة الإجرامية زخمها ، ويقوم بتصعيدها إلى مستويات لم تكن لتصل إليها بدونه . إنه يمنحها الحضور ومشروعية الحضور (بما يمتلكه من قدرات مادية تكفل له مستوى أعلى من الفعل ، والذي يؤدي إلى مستوى أعلى من المشروعية ، وبما تمنحه ارتباطاته بالتقليدية الاتباعية من تزكية اجتماعية ذات بُعد جماهيري عريض) بقدر ما تمنحه مستوى أعلى من الترميز . إذن ، لولا هذه الظاهرة (= الظاهرة الإرهابية / الخوارجية) التي تشكل البيئة الحاضنة ؛ لما كان هذا الإرهابي على هذا المستوى من الترميز عند جماهير التقليدية الاتباعية ، وما لحق بها من حركات أصولية متطرفة ، بل لأصبح مجرد مجرم عابر في إحدى عصابات المافيا التي تلعنها الجماهير ليل نهار . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فلولاه ؛ لم تكن هذه الظاهرة إلا مجرد مظاهر إجرامية لمجموعة من المتطرفين في مجتمعات العالم الإسلامي . فبدون هذا الإرهابي (= ابن لادن) ؛ لم تكن الظاهرة المحدودة لتصل إلى مستوى الظاهرة العالمية التي تجعل منها - مع أنها مجرد ظاهرة دينية إسلامية (بوصف الخوارج ظاهرة إسلامية خالصة ؛ رغم كونها ظاهرة انحراف) - ظاهرة تشغل العالم كله ، من أقصاه إلى أقصاه . لكن ، تبقى الأسئلة التي تحكم العلاقة بين الظاهرة، والرمز : ماذا يعني تحطم هذا الرمز الإرهابي في سياق الظاهرة الإرهابية ؟ هل سيؤدي إلى تلاشيها ، أو حتى إلى ضمورها ؟ وإذا كان لابد من أثر بحكم العلاقة ، فما مستواه ؟ وفي أي اتجاه ؟ هذه الأسئلة هي الأكثر عملية ، والإجابة عنها لابد أن تلامس قاع الفكرة التي ينبع منها ظاهر الإرهاب ، أي التكفير كما هو في منظومة التقليدية الاتباعية ، ولكن ليس هذا مجال تناول هذه الفكرة الآن . الذي لا شك فيه ، أن تحطم هذا الرمز الإرهابي سيؤدي إلى تراجع الوهج الذي رافق العمليات الإرهابية للقاعدة ، بوصفها - كما تتصورها جموع الدهماء من التقليديين - عمليات تدخل في باب النضال المسلح ، أو ما يُسمى بالجهاد المقدس . كما أن تحطم هذا الرمز على يد العدو الأول لهذه الجماعة الإرهابية (= أمريكا) سيضعها في حالة المهزوم المطعون في العمق ؛ بعد أن كانت تعد بالنصر الكبير ، لا بمجرد الهزيمة ، فكيف بهزيمة تضرب رأس الأفعى ، وتدفن مع جثمان الإرهابي الهالك كلّ ما كانت تدعيه الأصوليات المتطرفة من وعود... قبل أربع أو خمس سنوات ، لاحظ كثيرون انحسار ظاهرة الإرهاب ، وتراجعها عن كثير من مستويات الإنجاز الدعائي والواقعي ، وأنها لم تعد بحالها التي كانت عليها بعد الحادي عشر من سبتمبر مباشرة . وقد كتبتُ آنذاك عن انحسار هذه الظاهرة في مقال (الأصولية في مرحلة الانحسار) ؛ لأن كل المعطيات الواقعية كانت تدعم الرؤية التي تؤكد هزيمة الإرهاب . فالشرعية الجماهيرية النسبية التي كان يجري التعويل عليها كادت أن تنتهي تماما ، وحل محلها شِبه إجماع عام / جماهيري على أن الإرهاب (على الأقل في صورته الدموية التي طاولت الجماهير مباشرة) ليس هو الطريق إلى الخلاص. لم يطرح الإرهاب نفسه في الواقع كعبث إجرامي ؛ حتى وإن كانت الحقيقة كذلك ، وإنما كان يطرح نفسه في الوسط الإسلامي متشرعناً بفكرة الخلاص من واقع الهزيمة والانحطاط والتردي الحضاري . وإذ لم يقدم الإرهاب أي منجز على هذا المستوى ، بل قدّم نتائج مأساوية في الاتجاه المعاكس ؛ أصبح الإحباط هو سيد الموقف ، ولم يبق منه إلا مجرد تعبير مجنون عن غضب مكتوم ، هو أشبه بالانتحار في لحظة الاحتضار . لهذا ، لم يكن من المصادفة أن تأتي نهاية زعيم الإرهاب في الوقت الذي تُحقق فيه الاحتجاجات السلمية كثيراً من المنجزات على أرضية الواقع السياسي . ما بين استشهاد (البوعزيزي) في تونس ، وبين هلاك زعيم الإرهاب ، هي مدة قصيرة ، لا تتجاوز خمسة أشهر ، خمسة أشهر كانت تحمل كثيرا من المتغيرات التي أثرّت - بعمق - في طريقة تعاطي الناس مع واقعهم المرفوض . إن لسان الواقع هو أصدق لسان . فمثلا ، ما لم تستطع تحقيقه كل الأصوليات في مصر على مدى أربعين عاما من العنف الدموي ؛ أنجزت أضعاف أضعافه الاحتجاجات السلمية في مدة لا تتجاوز ثمانية عشر يوما . ما لم يستطع زعيم القاعدة الهالك تحقيقه طوال سنوات عمره الذي استهلكها في صناعة الموت ، ومن ورائه كل زعامات الإرهاب من الأحياء والأموات ، استطاع (البوعزيزي) تحقيق أضعافه في لحظة احتجاج سِلمي لم يُرق فيها قطرة دم واحدة ، بل كانت روحه هي القربان الفدائي لأرواح ملايين الأبرياء . إننا بين زمنين يعكسان خيارين مختلفين بأقصى درجة الاختلاف : زمن الإرهابي الهالك (= ابن لادن) وزمن (البوعزيزي) . الزمن الأول في طريقه إلى التلاشي ، والزمن الثاني هو الزمن الصاعد . الزمن الأول فاشل بأقصى درجات الفشل ، والزمن الثاني ناجح بأعلى درجات النجاح (نجاح في التغيير ، تغيير الواقع المرفوض ، وليس نجاحا فيما تفرضه المعطيات المسبقة على ما بعد التغيير) . ولهذا ، فمن الواضح أن الجماهير - هي التي تحسم الخيار في النهاية - بدأت تتجه بطبيعتها إلى المنجز الواقعي المباشر الذي يلامس واقعها اليومي ، وليس إلى الوعود الطوباوية المعلقة في فراغ الخيال الأصولي المريض. إذن ، ليست ضربة واحدة هي التي تلقاها خيار الإرهاب في هذه اللحظات التاريخية الفاصلة ، بل هما ضربتان : الأولى : نجاح خيار الاحتجاج السلمي ، والثانية : مقتل زعيم الإرهاب . الضربة الأولى هي الضربة الحقيقية الفاصلة على مستوى الواقع ، بينما لم تكن الثانية إلا مجرد إعلان رمزي (كبير في دلالاته الرمزية) عن نهاية خيار الإرهاب . الضربة الأولى هي التي قامت بتنفيذ حكم الإعدام في الإرهاب علانية ، وأنهت وجوده كخيار في قلوب بضعة ملايين من جماهير التقليدية ، بينما الثانية كانت مجرد إعلان فاتر عن الانتهاء من مهمة التخلص من آخر مقتنيات الفقيد ؛ بعد مُواراة الجثمان ! . نجاح الخيار الأول (= خيار التغيير السلمي) ، لا يعني نجاح الخيار السلمي فحسب ؛ مقارنة بخيارات العنف ، وإنما يعني التوافق النسبي مع حزمة المبادئ التي يطرحها أيضا . لهذا ، لم يكن من المصادفة أن خيار (البوعزيزي) لم يطرح تصورات أممية ، ولم تعمل الأدبيات الأصولية شيئا ذا بال في تحديد مساره العام ، بل اشتكى كثير من الأصوليين المتطرفين صراحة من أن الاحتجاجات التونسية والمصرية كانت ذات نكهة يسارية واضحة ، وأنها معنية بالداخل الوطني ، لا بالخارج : العالم العربي أو العالم الإسلامي . أي أنها كانت رافضة ، وبصورة جذرية ، لأهم المنطلقات التي تنهض عليها الرؤية الأصولية للعمل السياسي ، رافضة لأهم المبادئ التي لم تكن الأصولية تقبل أن تطرح عليها مجرد تساؤل ؛ فكيف بأن تصبح مطروحة في سلة الأوهام ؟! بهذا نجد أن مصرع زعيم الإرهاب يشكل حلقة من حلقات مسلسل نهاية الإرهاب . صحيح أن الأصوليات المتطرفة لا تزال حاضرة ، ولا تزال تحاول ترسيخ أقدامها في الواقع ، ولا زال هناك كثير من المخدوعين بخطابها ، ومن المتعاطفين مع خياراتها . أي أن قدرتها على إنتاج مزيد من المتطرفين لا زالت في مستوى الإمكان الواقعي . لكن ، يبقى أن قدراتها في هذا المجال تراجعت إلى حد كبير ؛ نتيجة ضعف قدرتها على الاستقطاب . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فقد كان زعيم القاعدة الإرهابي على مستوى من السوء ؛ بحيث يصعب إنتاج أمثاله في كل فترة ، إنه ظاهرة في غاية السوء ؛ بحيث لا تتكرر إلا على مدى قرون .