ابتدأ الشباب الثورةَ السورية في 15 آذار الماضي، فتصدت لها أجهزة الأمن بالقمع والقتل ابتداء من مظاهرة جمعة "العزة" في 18 آذار الماضي. كانت "درعا" هي المدينة التي ابتدأ فيها القتل قبل غيرها من البلدات السورية. وقد تلتها "دوما" و"بانياس" على الساحل السوري جنوب مدينة اللاذقية، ثم عمت المظاهرات الصاخبة مدن سورية كثيرة، فقابلها أجهزة الأمن بالقمع والقتل والإرهاب المهين. وقد شاهد العالم كله ما عانته قرية "البيضاء" شرق بانياس، حيث تم اعتقال الرجال والأطفال. لا يكتمل الرسم الذي يصور إرهاب النظام السوري كنظام يشرعن للقمع في المنطقة إلا بعد أن نرى كيف يرفض هذا النظام التعامل بمهنية صحفية مع الإعلام العالمي الذي يعمل على نقل الحدث كما وقع. "نقطة حوار" التي تبثها قناة ال bbc البريطانية استضافت في 14 نيسان الجاري الإعلامي السوري المعارض "عبيدة نحاس". وقد اتصل بالمذيعة من داخل سورية السوري "عزام"، الذي عرّف عن نفسه بأنه من اللاذقية. عزام هذا لم يجد ما يخاطب به ضيف الbbc إلا أن يتهمه بأنه يتآمر مع السعودي "فلان"، وأن هذا الضيف –عبيدة- لا يصلح معه إلا الحوار بالبندقية.. والمشهد لا يحتاج إلى تعليق. لكن كيف قابل الشباب المنتفض خوف أهليهم عليهم من بطش أجهزة أمن السلطة الذي عاشه هؤلاء الأهل في الثمانينات؟ وكيف "حسبها" النظام عندما ظن أنه بمجرد إعادة "بروفات" قمع أجهزته الأمنية في ثمانينات القرن الماضي سوف يجعل الشباب السوري ينفض عن ثورته؟ الشباب السوري من جهته وصل إلى قناعة تؤكد له أن النظام متشبث برفض أي إصلاح أو أي تغيير يسمح للسوريين بالعيش عيشةً كريمة حرة. فمئات الآلاف من خريجي الجامعة لا يستطيعون الالتحاق بأي عمل، لأن ما هو متوفر من الوظائف استولى عليه أبناء محاسيب السلطة. مع ذلك فإن فقدان هؤلاء الشباب للوظيفة أو البحث عن لقمة العيش، ليس هو ما أشعل الثورة في صدورهم، بل غياب الحرية بشكل أساس، هو ما أشعل غضبهم. لذلك فإن الشباب في درعا بعد الوعود التي وعدت بها مستشارة الرئيس "بثينة شعبان" كانوا يهتفون: "يا بثينة يا شعبان الشعب السوري مو جوعان". خطاب الرئيس السوري في 30 آذار الماضي، وكلمته أمام الحكومة الجديدة يوم 16 نيسان الجاري لم يأخذهما الشباب السوري على محمل الجد. ففي المناسبتين أكد الرئيس بأن من حق المواطن أن يتظاهر. لكنه في اليوم التالي للخطاب، وبعد ساعة من كلمته في 16 نيسان قامت أجهزة الأمن باعتقال المتظاهرين واستعملت الهراوات المكهربة، وأطلقت الرصاص الحي فأوقع شهداء وجرحى، ما جعل المتظاهر يتساءل: من نصدق الخطاب أم الرصاص؟ ذكرى جلاء المستعمر الفرنسي عن سورية عام1946 صادفت يوم الأحد17 نيسان الجاري. هذه الذكرى رفعت من منسوب الغضب عند الشباب الثائر. تذكروا أن آباءهم قدموا الشهداء لاستقلال سورية، بينما الذين حكموا سورية منذ استولى حزب البعث على السلطة في عام 1963 وحتى يومنا هذا ليس منهم من شارك في الثورة على الفرنسيين. استطرادا فإن كاتبا أمريكيا مطلعا أكد: أن الرئيس "بشار أسد" عندما طلب من "بثينة شعبان" أن تقدم وعودا للسوريين،كان قد أعد خطابا يعرض فيه تلك الوعود. لكن مجموعة الأزمات التي تحيط بالرئيس رفضت تلك الإصلاحات، فمزق الرئيس الخطابَ وخرج على السوريين بخطاب آخر ألقاه في30 آذار أمام مجلس الشعب، ما خيب آمال الجميع. المؤكد أن النظام لم يحسب حساب تصاعد الاحتجاجات كما أظهرتها الأحداث الحالية. فقد ظن النظام أن قمع أجهزته الأمنية في ثمانينات القرن الماضي اعتقالا وإعداما ما يزال ماثلا في ذاكرة السوريين، وأن هذا النهج مايزال صالحا للتطبيق. ولن يجرؤ أحد على أن يعرّض أولاده وأمنهم ومعيشتهم للضياع. لذلك استهان النظام باحتجاجات السوريين. في مواجهة الاحتجاجات الحالية كان يبدو الارتباك في خطط ضباط الأمن السوري. جربوا الانتقال من خطة إلى أخرى. ادّعوا في بداية الأحداث أن هناك "متسللين" قدموا من خارج سورية وأطلقوا النار على المتظاهرين ورجال الشرطة. "بثينة شعبان" زعمت أن للإخوان المسلمين ضلوعا بما يجري. ولما رأى ضباط المخابرات أن الشارع السوري والإعلام الحر لا يصدّق ذلك، اتهموا نائبا من تيار المستقبل اللبناني بدعم عصابة مخربة وعرضوا أسلحة -زعموا أنها ضبطت معها- واعترافاتها على التلفزيون السوري. ما تناقله الشعب السوري من أخبار مفادها أن ضابطا أطلق النار على جنديين رفضا إطلاق النار على متظاهرين، جاء ما يؤكده عندما أذيع بأن أهالي قرية قريبة من درعا خرجوا في جنازة جندي مات في السجن وآثار التعذيب بادية على جسمه كما عرضتها الصور، ما أكد مصداقية الخبر آنف الذكر. الأحداث في سورية تتسارع وفي جعبتها الكثير والجديد كل يوم، بل في كل ساعة. الشباب يصعّد من احتجاجاته ولا يرهب من قمع النظام. الرئيس السوري يقتفي أثر الرئيس "حسني مبارك" خطوة خطوة، ويظن أنه سوف يحتوي الاحتجاجات من دون تقديم ما يرضي الشعب –لا أقول تنازلات- السوري. ما يرضي الشعب السوري حق وليس منة أو تنازلا، والرئيس عليه أن يعيده له ويقدم الاعتذار عما لحق بالشعب من أذى في عهده وعهد أبيه. ما لاحظه المراقبون في سورية –كما في مصر- أن نظام الحكم لا يدرك الحقائق إلا متأخرا وبالتقسيط ، بعد أن تتجسد أمامه حيةً في الشارع، فيبني على الجديد، لكن الشباب يطلبون المزيد. الأجهزة الأمنية درجت على الاستعانة بزعران "الشبيحة" أو أصحاب الثياب السوداء الذين قتلوا متظاهرين وشرطة مدنية في درعا وفي بانياس وفي اللاذقية وفي حمص، ثم بعد ذلك ادعت هذه الأجهزة بأن هؤلاء "مندسون"، من دون أن تقول من أين جاؤوا. يوم الاثنين في 18 نيسان الجاري تم في حمص تصفية العميد "خضر تلاوي" مع ولديه وابن شقيقه بسيارته ومُثّل بجثثهم، وقتل العقيد "معين محلا" والرائد "إياد حرفوش". سوف تبقى نقاط استفهام مبهمة، وعلى النظام توضيحها. وإلا فالشعب السوري يعرف أن أجهزة الأمن هي التي جندت هؤلاء المندسين. ويتساءل الناس: لماذا لا يظهر المندسون ويقتلون المتظاهرين عندما يسيّر النظام مظاهرات مؤيدة له من الموظفين في القطاع العام؟ حيث لم يصب أي متظاهر أثناء تلك التظاهرات الحكومية. يبقى أن نؤكد على حقيقة يؤكدها الشعب ويعرفها النظام الحاكم، وهي أن الشعب السوري لا يوجد طائفية بين مكوناته، وإن حاول النظام أن يهدد بها. ففي جمعة "العزة" في 18 آذار الماضي عندما تظاهر شباب من اللاذقية في حي "الصليبة" في وسط البلدة، حاول "الشبيحة" أن يوغروا صدور شباب الأحياء التي يقطنها "علويون". وعندما حضر هؤلاء رأوا الشباب يهتف: "سلمية ، ألله، سورية، حرية، وبس". فانصرفوا ولم يعودوا مرة ثانية.