سلطان بن عبد الرحمن العميري - نقلا عن الاسلام اليوم من المبادئ المستقرة لدى كل المسلمين: أن الله تعالى أكمل لهم الدين وأتم عليهم النعمة، بحيث إنه لم يبق شيء يحتاجه المسلمون في الجانب التشريعي إلاّ وقد بُيّن لهم على أكمل وجه. فالشريعة الإسلامية كاملة في جميع جوانبها وتامة في سائر أنظمتها؛ فالكمال ضارب فيما يتعلق بالعبادات من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، ومتحقّق فيما يتعلق بالمعاملات من البيع والشراء وأنواع العقود، وحاصل فيما يتعلق بالأنكحة والمواريث وسائر المعاملات الاجتماعية. والمجال السياسي من المجالات التي شملها الكمال والتمام في الشريعة الإسلامية؛ إذ هو ليس مختلفًا في طبيعته عن سائر المجالات الحياتية الأخرى. ومن المستبعد عقلاً أن يتعهد الإسلام بالتشريع والتوجيه في مجالات البيع والشراء والربا والرهن والإشهاد وأحكام النكاح والطلاق وأحكام الذبح ونحوها، ثم لا يشرع في المجال السياسي ولا يقدم رؤية شرعية تنضبط بها علاقات الناس فيما بينهم وتُحفظ بها حقوقهم. والمراد بالكمال في الدين هو أن الإسلام وما تضمّنه من نصوص ومبادئ كافٍ في هداية الأمة ووصولها إلى الرشد في عباداتها وعلاقتها بالله تعالى وفي معاملاتها وسياسيتها وأنظمتها في سائر عصورها، ويشرح الطاهر عاشور معنى الكمال في الشريعة فيقول: "إكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد التي لا يسع المسلمين جهلها، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحج بالقول والفعل، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي، كان بعد ذلك كله قد تم البيان المراد لله تعالى في قوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ). [النحل:89] وقوله: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). [النحل:44]، بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنة كافيًا في هدي الأمة في عبادتها، ومعاملتها، وسياستها، في سائر عصورها، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها، فقد كان الدين وافيًا في كل وقت بما يحتاجه المسلمون". [التحرير والتنوير:4/103]. والمقتضى العقلي لثبوت الكمال في الدين هو أن الأمة إذا أعطت النصوص الشرعية حقها من النظر والبحث فإنها لن تحتاج إلى غيرها من الأمم في إقامة دينها ودنياها، وستجد في المخزون الشرعي ما يحقق لها الكفاية في بناء النظم وحفظ الحقوق وضبط شؤون الحياة، مما يتحقق بها الغنى التشريعي عن كل المنهاج والأنظمة المستوردة من الأمم الأخرى، وها هو ابن القيم يشرح هذا المعنى فيقول: "وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالته صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده، وإنما حاجتهم إلى من يبلغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسَل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها". [إعلام الموقعين: 4/375]. وزيادة على ذلك فإنه لا يمكن لأمة من الأمم أن تصل إلى إحداث قوانين وأنظمة تشريعية تكون أفضل مما يمكن أن تُوصِلَ إليه نصوص الإسلام لو أُعطيت حقّها، وهذه ضمانة شرعية بأن أمة الإسلام ستكون أعلى الأمم قدرًا...وأنضجها سلوكًا... وأحكمها نظامًا وتشريعًا... وأعلاها سياسة، وأن كل الأمم ستكون تابعة لها إن استثمرت المخزون الذي جاءت به الشريعة، وهذا لا ينفي أن تتفوق بعض الأمم على أمة الإسلام إذا فرطت في استثمار المخزون الشرعي لديها. وليس معنى التقرير السابق منع الأمة من الاستفادة من تجارب ومنجزات الأمم الأخرى وإنما معناه: أن استفادتها لا تكون عن احتياج وفقر في مرجعيتها وموروثها التشريعي ولا نضوب في مخزونها الديني، وإنما يجيء الاحتياج، ويصبح ضرورة واقعية حين تفرّط الأمة في إعطاء النصوص الشرعية حقها، وتفرّط في دينها، وتنصرف عن تحليل الموروث الشرعي والمعرفي التي تضمّنته النصوص. ضخامة المخزون السياسي الشرعي: المادة السياسية في الإسلام مادة ضخمة ثرية، بحيث إنها تستطيع أن تلبي حاجات الأمة الإسلامية على مرّ عصورها؛ فقد اهتمت الشريعة اهتمامًا واسعًا بالمجالات المرتبطة بحياة الناس ومعيشتهم، وسعت إلى بناء الأحكام وتأسيس المبادئ التي تحقق لهم السعادة، وتضبط لهم العلاقات المختلفة، وقدمت في ذلك نصوصًا كثيرة، وقد توصّل بعض علماء الإسلام إلى أن آيات الأحكام غير محصورة في عدد معين من القرآن، وأن استنباط الحكم الشرعي خاضع لقوة القريحة وعمق التفكير، ومنهم من حصرها في عدد معين وأوصلها إلى ثمان مئة آية، وأما أحاديث الأحكام فقد أوصلها بعضهم إلى أربعة آلاف حديث من غير المكرر، وبعضهم زاد على ذلك وبعضهم نقص عن هذا العدد. وكذلك هو الحال في المجال السياسي، فإن اهتمام الشريعة به لا يقل عن غيره من المجالات، ولأجل هذا فإن مصادر الشريعة من نصوص القرآن والسنة – أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتصرفاته- احتوت على قدر كبير من النصوص المتضمنة للمبادئ والأحكام التشريعية التفصيلية، وهي تمثل ثروة هامة يمكن من خلالها تقديم رؤية ناضجة يسعد بها الإنسان في حياته السياسية. وقد قام الإسلام بعمليات استصلاحية للنظم الفاسد في الجاهلية، كنظام البيع ونظام الزواج وغيرهما، وأتى بنظم بديلة عنها، ومن المستبعد عقلاً أن يقوم الإسلام بذلك، ثم لا يقوم باستصلاح النظام السياسي، ولا يقدم فيه بديلاً يسعد الناس به، وهو نظام مماثل لتلك الأنظمة في الطبيعة والحكم، فضلاً عن أنه من أكثر الأنظمة فسادًا في الجاهلية وأعمقها تأثيرًا في حياة الناس. تجربة الخلافة الراشدة: ويزيد من ضخامة الموروث السياسي وحيويته ويوسّع من مخزونه ويقوّي من قدرته على مواجهة المتغيرات وتلبية المتطلبات: تجربة الخلافة الراشد؛ فهذه التجربة داخلة في صميم الموروث السياسي الشرعي؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أضفى عليها الشرعية وزكّاها ووصفها بأنها خلافة نبوة وأمر باتّباعها وجعلها سنّة متّبعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًّا، فيكون ما شاء الله أن يكون..." [المسند: 18430]، وقال صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بتقوى الله -عز وجل- والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد، فإنه من يعشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإنّ كل بدعة ضلالة". [الترمذي: 2600]. فنحن مأمورون من قِبَلِ الشرع باتباع السنن التي كان عليها الخلفاء الراشدون، سواء كانت السنن السياسية أو العبادية المحضة، وذلك أن لفظ السنة عام يشمل كل ما كانوا عليه، وسياق النصوص يؤكّد على أن المعنى الأولي للسنة فيها هي السنة السياسية؛ لأن سياقها جاء في معرض الأمر بطاعة وليّ الأمر والنهي عن مخالفته. فمرحلة الخلافة الراشد تُعدّ صورة زاهية في العقل الجمعي الإسلامي، ونموذجًا ملهمًا للأجيال المتطلعة للرقي السياسي، ووقودًا مفيدًا في استنهاض الهمم الراكدة، وهو النموذج الأكثر دقة... والأجمل صورة... والأروع منظرًا... والأبهى حلة... والأقوى جاذبية... والأشد بنيانًا... والأنقى منبعًا... والأبلغ تأثيرًا. وتبرز قيمة تجربة الخلافة الراشدة بالنسبة لأجيال الأمة اللاحقة بأمرين اثنين: الأول: أنها تجربة بشرية، فهي تشترك مع عموم الأمة بأنها لم تكن صادرة من المعصوم صلى الله عليه وسلم، وإنما هي نموذج قائم على التطبيق البشري للتشريعات السياسية الإسلامية، وهذا الحال يقربها من أجيال الأمة، ويفتح الباب لتشوّف الأمة إلى الإصلاح السياسي، ويجعل ذلك أمرًا قريبًا ومطلبًا ممكنًا، ويسد المنافذ السلبية التي تصوّر الحكم السياسي الإسلامي بأنه غير متاح للتجربة البشرية. الثاني: إنها تجربة غزيرة التطبيقات؛ فقد شهدت مرحلة الخلافة الراشدة مشاهد سياسية جديدة، وتغيّرات كبيرة في طبيعة المجتمعات الداخلة تحت نطاق الحكم السياسي، وتنوّعات واسعة في العلاقات بين طبقات تلك المجتمعات، واختلافات ظاهرة في ثقافتهم وأديانهم وتصوّراتهم وسلوكيّاتهم، وتعدّدات كبيرة في عرقيّاتهم وبلدانهم. وهذه الغزارة ساعدت على توسيع المادة السياسية في تلك التجربة وعلى استيعابها لكثير من الإشكاليات، فإذا أراد الباحث المعاصر أن يتحقق من تلك الغزارة فإنه سيجد شاهد ذلك في كمية القضايا السياسية التي ثارت في ذلك الزمن، وسيقف فيها على أجوبة وحلول لكثير من القضايا التي هي محل بحث ومثار جدل في عصرنا. ومن أمثلة القضايا التي نجد لها حلاً في تلك التجربة: طبيعة العلاقة بين الحكام والمحكوم، وتحديد الدوائر التي يُسمح فيها للحاكم بالتحرّك، ودور الأمة والشعب في الشأن السياسي، والموقف من التعدّدية السياسية والدينية، وحكم إنشاء الأحزاب والمجالس النيابية، والموقف من الترجيح بالأكثرية، وتحديد مفهوم المواطنة وضوابطها، وإيضاحًا تامًّا لقضية الحقوق والأموال العامة، وغيرها من القضايا. فإذا اجتمعت هذه المادة الغزيرة مع الموروث الشرعي المعصوم فستكونُ مخزونًا شرعيًّا وسياسيًّا ضخمًا، تستطيع الأمة من خلالها أن تبني مشروعًا سياسيًّا ناضجًا يخرجها مما هي فيه من الانحطاط السياسي، ويرتفع بها إلى مستويات عالية من الرقي. أنواع الموروث السياسي: ينقسم الموروث السياسي الذي تتناقله الأمة عن العهد النبوي والعهد الراشدي إلى قسمين: القسم الأول: الموروث الذي يحمل الطابع التشريعي، وهذا النوع يأخذ أوصاف الأحكام العبادية الأخرى، كأحكام الصلاة والزكاة والصيام والحج، من حيث وجوب الالتزام به، ولزوم الاستمساك بصفته وحدوده وضوابطه. فالتشريع السياسي في الإسلام ليس مجرد قضايا كلية فقط، كالأمر بالعدل والمساواة والشورى، وإنما يتضمن قضايا تفصيلية تتعلق ببعض شؤون السياسة ومتعلقاتها الجزئية. وهذا الأمر ليس غريبًا في التشريع، فقد جاءت الشريعة في باب المعاملات بأصول كلية ومقاصد عامة تضبط الجزئيات الداخلة في نطاقها، كالنهي عن الجهالة والغرر والربا، ومع ذلك فقد جاءت بأحكام تفصيلية ملزمة تتحقق بها تلك المقاصد وتزيد من تأكيدها، كالحال في شروط البيع وأنواع المبيعات وضوابط الإقراض والعقود ونحوها. وكذلك هو الحال في المجال السياسي، فهو لا يختلف عن غيره من المجالات الحياتية، فالمادة التشريعية فيه ليست كلية فقط تشترك فيها كل المجتمعات، وإنما فيها قدر كبير من المواد التفصيلية الملزمة. ومما يدل على ذلك: أن مبدأ الحرية ليس مطلقًا في الإسلام كما هو الحال في كل الأنظمة الأخرى، وإنما هو مقيد بقيود تفصيلية تتوافق مع أصول الإسلام وأحكامه، وقد حدَّدت النصوص الشرعية تلك القيود، وهذا نوع من التشريع التفصيلي الملزم في المجال السياسي. وكذلك هو الحال في مبدأ المساواة، فإن هذا المبدأ ليس مطلقًا، وإنما لا بد فيه من اعتبار الضوابط التي دلّت عليها نصوص الشريعة ومقاصدها، وهذا نوع من التشريع التفصيلي. بل إن طبيعة العقد الذي بين الحاكم والمحكومين يأخذ في بعض تفاصيله الطابع التشريعي؛ لأنه عقد وكالة، وهو من العقود التي جاءت الشريعة فيه بأحكام تفصيلية ملزمة. وكذلك بينت الشريعة الأحكام التفصيلية المتعلقة بحكم الجمعة والجماعات والجهاد مع الحكام، وضوابط الطاعة له والخروج عليه. وقد ضيّق بعض الإسلاميين دائرة الجانب التشريعي في المجال السياسي، وتوصّل إلى أن الإسلام لم يأت فيه إلاّ بأصول كلية ومبادئ عامة فقط، كالأمر بالعدل والمساواة والحرية والشورى. ونحن إذا رجعنا إلى الموروث السياسي في الشريعة نجد أنه احتوى على مادة تشريعية تفصيلية كبيرة تساعد على انتظام المجال السياسي مع الأنظمة الأخرى التي جاءت بها الشريعة، فهي لم تترك كل ضوابط الحرية لتجارب الناس، يقيدونها كيف شاؤوا على حسب تجاربهم، وإنما أقامت ضوابط عديدة تجعل الحرية المتاحة منسجمة مع المجالات الأخرى ومتوافقة معها. القسم الثاني: الموروث الذي يحمل الطابع الإجرائي، وهو عبارة عن الأمور التي دخلت في الخطاب السياسي لأجل مصلحة تنفيذ الحكم الشرعي وانضباطه لا لأجل الإلزام به، فهي أمور لم يُرعْ فيها الجانب التشريعي وإنما روعي فيه الجانب التنفيذي. ويدخل في هذا النوع القضايا المتعلقة بالشكل التطبيقي للدولة والآليات التنفيذية والتراتيب والوسائل التي تتحقق بوساطتها الأحكام التشريعية والمقاصد الكلية. فشكل الدولة وآليات التنفيذ فيها ليست أمورًا توقيفية ملزمة، وإنما هي مصالح مرسلة راجعة إلى مراعاة الموازنة بين المصالح والمفاسد، وهي أمور متروكة لقدرات الأمة ومهاراتها على التطوير والتجديد والبحث عن المناسب والمفيد. وليس معنى هذا إغلاق باب الاستفادة من الأمور الإجرائية التي كانت في العهد النبوي والراشدي، وإنما غاية ما يدل عليه كشف طبيعته وبيان منزلته فقط. وعدم التمييز بين هذين النوعين – التشريعي والإجرائي- يُعدّ أحد أهم الأسباب التي أدّت إلى كثير من الالتباس والاضطراب في تحرير الخطاب السياسي في الإسلام، وأضحت كثير من القضايا مثار جدل ومحل اختلاف نتيجة تلك الرؤية الملتبسة التي لم تستطع أن تميز بين طبيعة الأنواع الداخلة في الموروث السياسي، وهذه الإشكالية كان لها حضور مؤثر منذ زمن بعيد في الفكر الإسلامي، وقد ذكر ابن القيم طرفًا من الخلاف فيها، ثم وصفها بوصف بليغ يكشف عن مدى خطورتها وأثرها، فقال: "وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب". [الطرق الحكمية: 13]. ويتطلب الإنقاذ السياسي قدرًا كبيرًا من إدراك الفوارق المؤثرة بين النوعين – التشريعي والإجرائي- ومهارة فائقة في الموازنة بينها، والبلوغ إلى هذا التمييز يُعدّ أحد المرتكزات الأساسية للوصول إلى النموذج السياسي الملهم، ومتى ما بقيت الصورة في حالة الالتباس فإنه ستتحول بعض القضايا التشريعية إلى أمور مصلحية غير لازمة، وتغدو بعض القضايا الإجرائية المصلحية أمورًا تشريعية ملزمة، وهنا يقع الخلط والاختلاط والتضارب في الرؤية الإسلامية السياسية.