تحدثت في الأسبوع الماضي عن مصطلح الحرية، وكيف أنه استُخدم كوسيلة من وسائل انتهاك التشريع الإسلامي، وتفصيل ذلك أن من تتبّع أقوال مَن تحدّث عن الحرية من العلماء والمفكرين الإسلاميين المعتدلين في استخدامه يجد أنهم يعنون بها، ما يذهب إليه أهل السنة والجماعة من أن للإنسان إرادة وقدرة فيما يختاره من معتقدات، وما يقوم به من أعمال، وأن ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى ومشيئته سبحانه وعلمه، على ما فصّله علماء الإسلام في حديثهم عن القدر . كما يعنون بها ما مَنَّ الله تعالى به على المسلمين من رفع الحرج عن الأمة، والتيسير عليها في التشريع، وكثرة المباحات في مقابل قلة المناهي. فهم يقولون إن الإسلام جاء بالحرية المنضبطة بضوابط الشريعة الإسلامية، وضوابطها هي كل ما نهى الله تعالى عنه. فمَن عمل في نطاق الواجبات والمستحبات والمباحات والمكروهات فهو مستمتع بالحرية التي جاء بها الإسلام قبل الحضارة الغربية والمواثيق الدولية بأكثر من ألف عام. وعند عرض هذه النظرة على الفكر الغربي نجد أن الحرية هناك لا تحمل معنى واحدًا، بل ليس لها مفهوم محدد عند فلاسفتهم، ابتداء من سقراط، وانتهاءً بسارتر، وهذا ما يجعل استخدامها كمصطلح للتعبير عن قيمة إسلامية استخدامًا خطرًا؛ لكونها كسائر المصطلحات الناشئة في بيئة مختلفة تأتينا بكامل أعبائها التي تحمّلتها عبر تاريخها الطويل الذي لا ينتمي إلينا، ولا يمكن أن ننتمي إليه، ولا يمكن أيضًا أن نفصلها عنه بحال من الأحوال. ولذلك لم يتوقف الواقع الثقافي عند هذا الاستخدام الساذج للتعبير عن قيمة إسلامية، بل تجاوز ذلك إلى انتهاك القيمة الإسلامية لصالح المصطلح الوافد، حيث أدّى القول بكونها مقصدًا من مقاصد الشرع إلى اعتبار أن لها أحكام المقاصد من حفظ الدّين، والنفس، والمال، والعرض، والنسل، الثابتة باستقراء جميع أحكام الشريعة، ولا يخفى أن مراعاة المقاصد يستعملها الفقيه في فهم النصوص، وتأويلها، وصرفها عن حقائقها إلى مجازاتها، كما تستخدم المقاصد في الاجتهاد في أحكام النوازل عند تعذر النصوص على اعتبار أن المقاصد ثابتة بالنص، وأصل الاجتهاد هو إعطاء غير المنصوص حكم ما فيه نص، بل ربما يستخدمها أهل صناعة الحديث في رد بعض الأحاديث دراية. فإذا وصلنا إلى أن نجعل الحرية مقصدًا من مقاصد الشرع تعيّن أن نعطيها كل هذه المكانة، وهذا ما لا يمكن لأمرين: أحدهما: أن اعتبار الحرية مقصدًا للشارع كما يقدمها عدد من المفكرين الإسلاميين يعني: أن الله أنزل الشريعة كي يكون الإنسان مريدًا، أو كي يتمتّع بالمباحات، وهذا ما لا يمكن أن يستقيم لأن الشريعة إنما اختص بها الإنسان من بين سائر الكائنات؛ لكونه أهلاً لحمل أمانة التكليف، وإنما أهله لذلك العقل والإرادة، فكيف تكون الإرادة التي هي مقتضى التكليف بالشرائع مقصدًا لها؟ الثاني: أن المقاصد لابد عليها من أدلة خاصة صريحة قاطعة في دلالتها، وهذا ما لا يوجد للحرية في الكتاب والسنة، وسوف يأتي الكلام عن ذلك قريبًا. المهم أن نمضي إلى أن القول بمقصدية الحرية للتشريع أنموذج للإشكالات التي لا يمكن الانفكاك عنها، حين نُصِر على أسلمة مصطلح معبأ بأثقال لا تمت لنا بِصِلَةٍ. وفي الأسبوع المقبل سوف أتحدّث عن أنموذج آخر من نماذج الخطل في استخدام مصطلح الحرية.