من حقنا أن نفرح بالأمر الملكي الكريم بإنشاء هيئة رسمية مستقلة مرتبطة بالملك لمكافحة الفساد. لكن الذي ليس من حقنا ويمكن اعتباره من باب العاطفة لا أكثر أن نحكم لهذه الهيئة بالنجاح المطلق على الرغم من أنها لم تضع تصوراتها النهائية بعد ولا آليات عملها وأهدافها ومعاييرها، أي أن الرؤية النهائية لم تتضح لنا والاستعجال في إصدار الأحكام النهائية قد يوصلنا إلى حكم في مرحلة متأخرة بعدم الرضا لأن ما تم لم يأت وفقاً لتصوراتنا المتسرعة. جزء من إشكالياتنا التي لم نتخلص منها المبالغة المفرطة في عواطفنا وفرحنا قبل ظهور نتائج العمل أو على الأقل مؤشرات النجاح. صحيح أننا فرحنا بتحقيق هذا الهدف الوطني بإنشاء الهيئة وهو حلم القيادة والشعب معا ولكن أعتقد أن دورنا حالياً الالتفات إلى طرح الرؤى والمقترحات والتصورات العملية حول عمل الهيئة المستقبلي لمساعدتها على رسم المنهجية السليمة بدلاً من إضاعة الوقت في المديح والإطراء الذي يضر أكثر مما ينفع. أدرك أن الهيئة أعانها الله ستتصدى لمهام جسيمة وستنوء بحمول ثقيلة وستواجه عقبات كثيرة من أصحاب المصالح والمنتفعين والشلل الفاسدة المنتشرة في أكثر من موقع لكن إذا الهيئة صرفت وقتها في رصد ومعالجة أعراض الفساد فأعتقد أنها ستدخل في دائرة لا نهاية لها لن تخرج منها بعظيم فائدة فتلك الأعراض ما هي إلا مؤشرات على وجود فساد يتغلغل ويكمن تحت جبل الجليد المتعاظم. إنه الفساد الكامن في الجذور المطمورة لا السيقان والأوراق الظاهرة أو بالتحديد ما يحدث تحت الطاولة من عمليات غير ظاهرة يشارك في إدارتها الكبار. ما لم تركز الهيئة عملها في الأعماق فستجد نفسها في نهاية الأمر بعيدة عن المشاكل الحقيقية. قد تعالج حالات اختلاس محدودة أو تقصير في أداء المهام أو غياب أو تأخر عن الدوام أو استخدام سيارات ومنشآت الدولة والسائقين والخدم في الأعمال الخاصة للمسؤول لكنها تغفل عن معالجة أصل المشكلة وهو المسؤول وشبكة المنتفعين حوله وانتهاكه للأنظمة واللوائح وطريقة ترسية المشاريع وتنفيذها وإبرام العقود وكيفيات التوظيف والترقيات والتعيين في المناصب وصرف المكافآت والحوافز. الهيئة لا بد أن تعمل في أكثر من مسار فإضافة إلى تصحيح الواقع واستئصال جذور الفساد يمكن للهيئة تطبيق آلية للإجراءات الوقائية حماية للعمل والمسؤولين ومنها مثلاً البحث الدقيق في السيرة الذاتية للمسؤول المعين، تاريخه العلمي والعملي والمالي ومهاراته وخبراته وتوجهاته وتطلعاته وإنجازاته وبرامجه المستقبلية ومناسبته للمنصب الجديد, ويقتضي تنفيذ هذه الرؤية امتلاك الهيئة لمركز معلومات متكامل. لا يكتفى فقط بالتعيين بل وحتى تدوير المناصب فقد أثبت الباحثون في الإدارة أن صاحب المنصب يزداد تمسكه به كلما طال مكثه فيه حتى يتحول مع الزمن إلى ملكية خاصة لذلك يقترحون أن يتم التدوير كل أربع سنوات تحقيقاً للمصلحة. ومادمنا شعباً مسلماً يخاف الله فلا بد للهيئة من بناء برنامج تثقيفي شامل لتكريس منظومة القيم للارتقاء بأخلاقيات الموظفين وكبح نوازع الجشع وضعف النفوس وإنقاذهم من حالات التردي والانحطاط إلى مستنقعات الغش والتزوير والرشوة والسرقة والخيانة والكذب والظلم والتعسف. بناء معايير متسقة مع المعايير الدولية سيسهل على الهيئة معرفة مدى التقدم الذي تحقق في مكافحة الفساد للوصول إلى قائمة الدول الأقل فساداً والأكثر شفافية.