* أهلا بكم في مقتطفات الجمعة 389. *** * إن للمدن حياة سطحية، وللمدن حياة في الأعماق .. لكل مدينةٍ قصصٌ على السطح، لكن الراوي الحقيقي يكمن في الأعماق. *** * عندما وصلنا جنيف المهندس أسامة كردي، ومنسقا الرحلة السيدان فهد الشلهوب وشاكر الشريف، وأنا.. كانت المهمة أن نرفع أصواتنا في البرلمان الدولي، واتفقت مع الصديق الحبيب الأستاذ عبد الوهاب الفايز رئيس تحرير هذه الجريدة، لنقل ليس وقائع المؤتمر بل ما يجري وراء كواليس المؤتمر، وكيف تتبادل الوفود أجنداتها، وكيف تمرر خططها، والمهندس أسامة يقول، كلما قلت له ذلك، ""وما العيب في أن يكون لكل أجندته .. هذه وقائع الحياة .."" وبالفعل صدق. من الآن وصاعدا لا بد من ترتيب أجندتنا وأهدافنا، وتحرّي دور رئيس لنا، في أن نكون من ضمن لجنة تسييره العليا أو ضمن رئاسة إحدى لجانه المتفرعة .. وعملنا المهندس كردي وأنا لرفع صوتينا بالنقاش والمشاركة، مما لفت الوفود إلى أننا موجودان، وكان من المناظر العادية أن يأتي أعضاءُ وفود الدول ويتبادلون الحديث ويركزون على ما قلناه في مداخلاتنا. والمهندس أسامة كردي أصفه بأنه رجل دولي من الطراز المُعَد عقلا وسلوكا وخبرة ليكون ممثلا قوي الحضور في المحافل الدولية، وأرجو أن أقدمه هنا، وهو لا يحتاج مني إلى ذلك، كي تستفيد منه الأمة في مجالات دولية كبرى .. أقول ذلك وأظنه سيرميني بابتسامته النصفية، تلك التي تعبر عن الغضب، أترون؟ حتى عندما يغضب .. يبتسم. يا للدبلوماسية!! *** * .. كنت أتمشى فجرا، شكرا لمكالمات الوالدة الفجرية، على البحيرة بجانب فندق ضيافتنا في جنيف متأملا طبيعة الحياة البسيطة، وكيف أنها من أودع مدن العالم، ولكن في أعماقها فحيح الشر والسطوة، مثل أفعى هيرا زوجة زيوس كبير الآلهة عند أساطير الإغريق، فهي ناعمة في منتهى الفتنة وتتجسد امرأة يقول عنها رومثيوس حامل شعلة النار في الأوليمب والمشاغب على هيرا: إن الجبلَ أي جبل الأوليمب جبل الآلهة والربات نفسه ينتصب جلالا واستغواء أمام هجير فتنتها. وبالداخل أفعى تموج لتلتهم كل شيء بلا قاع. وكذلك جنيف، إنها أكبر من سويسرا، بل أكبر من نفسها، فقسوة العمق أكبر بكثير من براءة السطح، فسويسرا الباقية راعية أغنام في الجبال الثلجية وصناع ساعات في قرى متناثرة مثل العناكب الملونة في سفوح الجبال المردة .. أما جنيف الحلوة المغرية الجذابة التي تدوخ عقول وعاطفة ورغبات وشهوات الرجال والنساء بالدنيا ففيها أقوى جيش في العالم، وتدير العالم بسلطة رهيبة، فكل قوى العالم الظاهرة والخفية المالية والاقتصادية والسياسية والمحفلية ممثلة وسط هذه المباني القوطية والرومانية المعمار، يخططون كما أفعى هيرا لالتهام العالم .. إن لجنيف قصة توقف شعر ماعزهم الجبلي.. كتبها كاشفُ الغطايا والأسرار بالألمانية ثم ترجمت .. ثم اختفى الكتاب إلا بندرةٍ عند الهواة .. يوما، وعَد، سأحدثكم عنه. *** * شخصية الأسبوع: عبد الوهاب العطار، بالنسبة لي، كمن يطلق عليهم بالإنجليزية أنهم أكبر من الواقع، أسمع عنه، وأقرأ عنه، وفي عقلية بسيطة مثل عقليتي تنضح بخيال الأسطورة كدت أضعه مع رفقائه في جبال الأوليمب. وحدثني عنه أستاذي أسامة كردي لأنه صديق له شخصي، وحتى بلاغة أسامة وتعلقه لم يكُونا كافيين. من أرقى اللحظات في زيارة مقتضبة لبلد مقتضب، لقاؤنا السفير عبد الوهاب عطار مرتين، في كل مرة ينثر سحر وجوده كعطر الشوكولا السويسرية في المكان بأناقة رسمية صارمة السَّمْت، وطلة جليلة مع وسامة دارت على العقود، وكأنه حضور لا زمني .. لا تغيب ابتسامة وقهقة عن فمه، وكل شعرة في رأسه وضعت في مكانها بعناية في خلط مهيب بين الأبيض والرمادي والأسود .. واسع الثقافة، سريع البديهة، بَرْقِيّ القفشات، حاضر الجواب، وحِرْتُ كيف أمسك له طرفا عقليا أتساوى فيه، على أنك تنتهي متزحلقا من جميع الجهات! هو سفير في مستوى فهم أوروبا، وفهم سويسرا أصعب من فهم بقية القارة، والرجل يقرؤها ويتمعن فيها ويجتهد من خلال ثقافاتها وطبيعتها وأنثروبولوجيتها الخاصة .. قلت له في بداية دعوته: ""أسعدتني من البداية لأنك ستدفع الفاتورة"" .. بسرعةٍ ردّ: ""سنرى من سيضحك في النهاية؟!"". *** * لم يعد كوكبنا كما كان، ولن يعود، فهو دار على محوره، وصار الآن يجري في مضمار الكون أسرع من بدء تكوينه، وتحول يومُنا الأرضي أقل منذ كان عليه من الأزل، وكان متوقعا أن يستمر للأبد، لقد نقص اليوم بواحد وثمانية بالعشرة من المليون من الثانية .. جاء الزلزالُ الفالقُ الذي هزّ بؤرة الأرض، وحرّك المحيط، وأبعد جزيرة اليابان بمساحة ملعب كرة عن موقعها السابق .. مَنْ أقوى؟ الزلزالُ والتسونامي اللذان تكونا من عرمرم، أم إرادة الإنسان للبقاء؟ يقيني أن ربَّ البشرية أرسل لها كوارث الطبيعة، ولكنه بعدْلِهِ الأقصى زرع في نفوسها شجرةً خالدة من التصميم والعزم وإرادة بناء الأرض، وإعادة بنائها أقوى وأعتى من الكوارث .. إنه امتحانٌ للبشرية لقوىً وضعها في وجودنا. *** * والمهم: اللهم أخرج إخواننا وأخواتنا في ليبيا وفي اليمن وفي البحرين وفي سورية من محنهم، وأعد إليهم هناء العيش ورخاء الرزق، ومذاق الأمان .. آمين. في أمان الله.