الرشوة، المحسوبية، الواسطة، الغش، السرقة، الاستغلال، التحايل، الاحتكار، والتزوير، وغيرها الكثير الكثير من المفردات الكريهة لمنظومة الفساد التي لا يخلو منها أي مجتمع على وجه الأرض، ولكن بنسب متفاوتة ومتباينة انعكاساً لمستوى الشفافية، وتبعاً لمدى وعي وثقافة ورفض الفرد في تلك المجتمعات التي تتمظهر فيها بعض أشكال وألوان تلك المنظومة الخطيرة. وبنظرة سريعة وفاحصة حول العالم يُلاحظ المراقب والراصد أن معدل الشفافية كمؤشر لمحاربة الفساد يصل إلى أدنى مستوياته في غالبية دول العالم الثالث، سواء كانت تلك الدول آسيوية أو أفريقية أو لاتينية، ومن تلك الدول الصومال وأوزبكستان والعراق وفنزويلا والسودان، بينما تتصدر الدول الأوروبية ذلك المؤشر الحساس باعتبارها الأكثر شفافية ونزاهة ومكافحة للفساد كالسويد والدنمارك ونيوزلندا، إضافة إلى بعض الدول من قارات أخرى كسنغافورا واليابان وأمريكا وقطر. هذه المقدمة البسيطة تأتي كبداية مناسبة ربما لمناقشة القرار الملكي الخاص بإنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد والذي صدر قبل عدة أيام ضمن حزمة من 20 قراراً ملكياً هي الدفعة الثانية بعد 13 أمراً ملكياً صدرت قبل ثلاثة أسابيع. الفساد بمختلف أشكاله ومستوياته ظاهرة أزلية وعالمية تنتشر في كل دول العالم بلا استثناء، ومجرد إقرار مثل هذه الهيئة الرقابية المهمة التي ترتبط مباشرة بخادم الحرمين الشريفين الذي يتبنى مشروعاً إصلاحياً كبيراً طال الكثير من المجالات والقطاعات منذ توليه للحكم قبل 6 سنوات، أقول إن إقرار تلك الهيئة هو اعتراف محمود بوجود مظاهر مختلفة للفساد، سواء كان هذا الفساد مالياً أو إدارياً، ويحتاج إلى محاربة حثيثة ومكافحة منظمة، لأن تفشي الفساد يتسبب في هدر الأموال وتعطل المصالح وتأخر المشاريع التنموية، وكما هو معلوم، فإن الاعتراف بالمشكلة في الأساس هو البداية الحقيقية لحلها. الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد مؤسسة ضرورية جداً، وجاءت في وقتها للقضاء على كل أشكال الفساد المتفشي في أروقة الوزارات والمؤسسات الحكومية والخاصة، وفي الكثير من تفاصيل حياتنا العامة والخاصة. يبدو أن عصر "كله تمام" قد انتهى، وجاء زمن المساءلة والرقابة والحساب، وهذه المرة عبر ثورة وطنية حقيقية يقودها الملك نفسه ضد الفساد، مهما كان هذا الفساد، هذا الداء اللعين الذي أعاق بعض الجوانب التنموية في هذا الوطن العزيز. ما يحدث تحت الطاولة، أو في المظاريف المغلقة، أو في المناقصات التي تُدار من الباطن، أو ما يذهب في جيوب المستفيدين، كل ذلك وأكثر سيتوقف وهو المؤمل طبعاً بعد صدور الأمر الملكي بإنشاء هذه الهيئة الوطنية لمحاربة ومكافحة الفساد. هذه المبادرة الرائعة التي نتفاءل بها كثيراً لأسباب كثيرة أهمها ارتباطها المباشر بصانع القرار الأول في هذا الوطن، وكذلك إسنادها لشخص تخصص في الكتابة عن قضايا الفساد والرقابة والمحاسبة والبطالة والسكن. محمد بن عبدالله الشريف رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، من مواليد محافظة الحريق، وحاصل على درجة الماجستير في الإدارة العامة من جامعة جنوب كاليفورنيا، وتقلد عدة مناصب مهمة وحساسة في القطاعين المالي والإداري، حيث عمل في وظيفة وكيل وزارة المالية والاقتصاد الوطني للشؤون المالية والحسابات من 1982 إلى 1998م، وعمل مساعداً في ديوان المراقبة العامة من 1977 إلى 1992م، كما شغل منصب مدير عام ديوان المراقبة العامة لعدة سنوات، إضافة إلى عضويته لمجلس الشورى لثلاث دورات من 1992 إلى 2005م، وله عدة مؤلفات وبحوث ودراسات تتعلق في مجملها بالشأن الاقتصادي وقضايا المحاسبة والمراقبة، مثل كتاب "الرقابة المالية في السعودية"، وكتاب "حسابات الحكومة في السعودية"، وكتاب "جوهر الإدارة: رؤية تحليلية تطبيقية مقارنة لنظرية الإدارة". إن إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أمر يدعو للسعادة والثقة والأمل في حاضر ومستقبل هذه الأمة التي تبحث لها ومنذ زمن طويل عن مكان لائق بين الأمم المتقدمة والمتحضرة. نعم، الأمر يدعو للفرح والأمل، ولكن محاربة ومكافحة هذا الإخطبوط الفساد الكبير الذي يصل تقريباً إلى كل مفاصلنا العامة والخاصة يحتاج إلى تضافر كل الجهود والإمكانات والقدرات، سواء كانت رسمية أو نخبوية أو مجتمعية. الكل مطالب بمحاربة الفساد مهما كان مصدره أو حجمه، المواطن والمسؤول وصاحب القرار والوزارات والمؤسسات العامة والخاصة ومؤسسات المجتمع المدني، لا أحد يُستثنى من ذلك، لا أحد. الفساد يعطلنا عن اللحاق بنادي العالم الأول، هذا النادي الذي نستحق الانضمام لعضويته الذهبية منذ عقود مضت، لأننا نتمتع بإمكانات وقدرات وطاقات استثنائية، سواء كانت بشرية أو مادية. أيها "الشريف"، بل كل الأشراف في هذه الأرض الطيبة، كان الله في عونك وعوننا جميعاً، فلقد بدأت المواجهة الحقيقية مع هذا المرض الخبيث حتى لا ينتشر في الجسد الوطني.