عبد اللطيف القرني - الاقتصادية السعودية ننتظر بشغف كبير صدور نظام المرافعات الشرعية وقواعد المرافعات الإدارية التي تأخرت وطال تأخرها وتسببت في تأخير بعض إجراءات فصل القضاء التجاري والجزائي عن جهاز ديوان المظالم, ومن لطائف القراءة ما سمعته من أحد الزملاء عن قصة تاريخية تضمنت أنظمة المرافعات على مستوى عال من التطور والإتقان ورجعت إليها بكامل تفاصيلها في كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية للإمام أبي الحسن علي الماوردي البصري صفحة 157, لا أطيل عليكم ننتقل للقصة وبعدها ننظر إلى واقعنا. حكي أن المأمون كان يجلس للمظالم في يوم الأحد, فنهض ذات يوم من مجلس نظره, فلقيته امرأة في ثياب رثة, فقالت: يَا خَيْرَ مُنْتَصِفٍ يُهدَي لَهُ الرَّشَدُ وَيَا إماماً بِهِ قَدْ أَشْرَقَ البَلَدُ تَشْكُو إِلَيْكَ عَمِيدَ المُلْكِ أَرْمَلَةٌ عَدَا عَلَيْهَا فَمَا تَقْوَى بِهِ أَسَدُ فَابْتَزَّ مِنْهَا ضِيَاعاً بَعْدَ مَنْعَتِهَا لَمَّا تَفَرَّقَ عَنْهَا الأَهْلُ وَالوَلَدُ فأطرق المأمون يسيراً ثم رفع رأسه, وقال: مِنْ دُونِ مَا قُلْتِ عِيلَ الصَّبرُ وَالجَلَدُ وَأَقْرَحَ القَلْبَ هذَا الحُزْنُ وَالكَمَدُ هذَا أَوَانُ صَلاةِ الظُّهْرِ فَانصَرِفِي وَأَحْضِرِ الخَصْمَ فِي اليَوْمِ الَّذِي أَعِد المجْلِسُ السَّبْتُ إنْ يُقْضَ الجُلُوسُ لَنَا أَنْصِفْكِ مِنْهُ وَإِلا المَجْلِسُ الأَحَدُ فانصرفت وحضرت يوم الأحد في أول الناس, فقال لها المأمون: من خصمك؟ فقالت: القائم على رأسك العباس ابن أمير المؤمنين, فقال المأمون لقاضيه يحيى بن أكثم,- وقيل لوزيره أحمد بن أبي خالد: أجلسها معه وانظر بينهما, فأجلسها معه ونظر بينهما بحضرة المأمون وجعل كلامها يعلو, فزجرها بعض حجابه, فقال له المأمون: دعها فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه, وأمر برد ضياعها عليها. ومن خلال القصة السالفة ننظر إلى أن أنظمة المرافعات والإجراءات كانت في ثناياها, فمن ذلك تخصيص قضاء المظالم بالاهتمام واعتباره أهم من القضاء العام لارتباطه بجهاز الدولة, كما أن تحديد مواعيد للجلسات يلزم منه إبلاغ الطرفين, خاصة في القضايا التي يتضح فيها الاختصاص, أما إذا كانت القضية معلومة الاختصاص سلفاً فيمكن الحكم بمواجهة المدعي ولا حاجة إلى استدعاء المدعى عليها لعدم الحاجة العملية إلى مثل هذا النوع من الإجراء. وكم سمعنا عن قضايا تأخرت في النظر, وفي النهاية كان الحكم بعدم الاختصاص, ولا شك أن هذا من قبيل الإهمال الذي تطوله المساءلة لأن حقوق الناس أمانة يجب أن تحترم في إجراءاتها. ومن القواعد الإجرائية في هذه القصة قيام المأمون بتحديد موعد عاجل للمرأة المتظلمة, وهذا مقرر في قواعد المرافعات والإجراءات بما يعرف بالطلبات العاجلة وكيفية التعامل فيها, ومن إجراءات المرافعات قيام المأمون بالتنحي عن القضية, وذلك لكون المدعى عليه قريبه من الدرجة الأولى, وهذا ما وردت به المادة التسعون: يكون القاضي ممنوعاً من نظر الدعوى وسماعها ولو لم يطلب ذلك أحد الخصوم في الأحوال الآتية: أ إذا كان زوجاً لأحد الخصوم أو كان قريباً أو صهراً إلى الدرجة الرابعة. ب إذا كان له أو لزوجته خصومة قائمة مع أحد الخصوم في الدعوى أو مع زوجته. ج إذا كان وكيلاً لأحد الخصوم، أو وصياً، أو قيماً عليه، أو مظنونة وراثته له، أو كان زوجاً لوصي أحد الخصوم أو القيم عليه، أو كانت له صلة قرابة أو مصاهرة إلى الدرجة الرابعة بهذا الوصي أو القيم. د إذا كان له أو لزوجته أو لأحد أقاربه أو أصهاره على عمود النسب أو لمن يكون هو وكيلاً عنه أو وصياً أو قيماً عليه؛ مصلحة في الدعوى القائمة. ه إذا كان قد أفتى أو ترافع عن أحد الخصوم في الدعوى أو كتب فيها ولو كان ذلك قبل اشتغاله بالقضاء، أو كان قد سبق له نظرها قاضياً أو خبيراً أومحكماً، أو كان قد أدى شهادة فيها، أو باشر إجراء من إجراءات التحقيق فيها. وبقي في القصة سرعة إنهاء القضية وبعدها سرعة التنفيذ, وهذا هو كمال العدالة أن تصل الحقوق ورد المظالم في الوقت العادل. أما أن تمكث القضية سنوات عجافا ثم يصدر الحكم مليئا بالأخطاء الفنية وينقض وهكذا .. وبعد فترة طويلة يكتسب القطعية ثم تبدأ مرحلة أخرى أشد مرارة من التي قبلها وهي مرحلة تنفيذ الحكم القضائي وتبعاته, عندها يشيب الولدان وتموت العدالة بسبب انصرام حقبة زمنية على رفع المظلمة. إن تحقيق العدالة ليس دور القاضي فقط بل هو دور كل مؤسسات الدولة من أعلى سلطة حتى أصغر موظف, نعم القاضي يشكل الشريان الرئيس لهذه العملية, لكن مع انعدام العوامل المساندة تنشل الحركة تماماً. ولهذا نلمس تذمراً واسعاً في العملية القضائية بسبب انعدام العوامل المساندة لقاضي الموضوع وقاضي التنفيذ. إن هذه القصة وغيرها من قصص التاريخ تؤكد ظهور مضامين أنظمة المرافعات وقواعد الإجراءات, وعلق الماوردي على القصة بقوله: ففعل المأمون في النظر بينهما حيث كان بمشهده, ولم يباشره بنفسه لما اقتضته السياسة من وجهين: أحدهما: أنه حكم, ربما توجه لولده, وربما كان عليه, وهو لا يجوز أن يحكم لولده وإن جاز يحكم عليه. والثاني: أن الخصم امرأة يجل المأمون عن محاورتها, وابنه من جلالة القدر بالمكان الذي لا يقدر غيره على إلزامه الحق, فرد النظر بمشهد منه إلى من كفاه محاورة المرأة في استيفاء الدعوى واستيضاح الحجة, وباشر المأمون – رضي الله عنه – تنفيذ الحكم وإلزام الحق. وفي الختام إذا كانت أنظمة المرافعات مبثوثة في كتب التاريخ والأنظمة المعاصرة فلماذا تتأخر دراسة الأنظمة؟ مع أن العبء عليها كثير وكثير ... في إصلاح الأخطاء المتراكمة في العملية القضائية.