صالح محمد الجاسر - الاقتصادية السعودية عنوان هذا المقال اخترته منذ عدة أشهر أثناء قراءتي لسيرة الحاكم بأمر الله، سادس خلفاء الدولة الفاطمية العبيدية (المتوفى سنة 411ه)، حيث كان العقيد معمر القذافي يتمثل في كل سطر قرأته من سيرة الحاكم بأمر الله، وكأنه تقمص شخصيته، وأراد أن يطبق نسخة حديثة منها، والقذافي لم يخف إعجابه بالدولة الفاطمية، فطالما تحدث عنها، وأراد إعادتها من جديد. معمر القذافي، شخصية غريبة، جمعت بين متناقضات عديدة، مصاب بجنون العظمة إلى حد إطلاق كل لقب يسمع به، أو يقرأ عنه على نفسه، وتناقضاته جعلت منه شخصية مسلية، فالكثير من الزعماء العرب، يجدون أثناء القمم العربية متعة في الاستماع لكلماته، لا لما تحويه من حكم وفوائد، وآراء سياسية صائبة، بل لما تتضمنه من تجاوزات لفظية، وتخريفات، وخروج عن السلوك السوي، فهم يرون فيه مهرجاً، أكثر مما يرون فيه زعيما. القذافي بدأ حكمه بهواية عجيبة، وهي البحث عن الوحدة مع الجيران، فقد عرض الوحدة على مصر، فأخفق فاتجه غرباً إلى تونس وعرض عليها الوحدة بشكل مفاجئ، فقامت عام 1974م وحدة توجت بإعلان قيام (الجمهورية العربية الإسلامية) وانتهت الوحدة بعد يوم من إعلانها، ولولا وجود بحر بين ليبيا وكل من إيطاليا واليونان لعرض عليهما الوحدة. القذافي مهووس بتضخيم الذات، ويرى في نفسه رجلا حكيماً ملهما، ولهذا لا تكاد تخلو كلمة من كلماته من تنظير، يرى فيه القذافي أنه السبيل الوحيد لحل جميع مشكلات العالم، ويرى فيه الآخرون أنه ضرب من الجنون، وعدم إدراك الواقع. راوحت تصرفات القذافي العجيبة ما بين تغيير التاريخ الهجري، وإصدار كتابه الأخضر، وإعلان دولة الجماهير واللجان الشعبية، واقتراحاته وآرائه العجيبة، فمن اقتراح دولة تجمع الفلسطينيين مع اليهود تحت اسم ""إسراطين"" إلى حديثه عن الشيخ زبير ""شكسبير"" وعن ديمومة الكراسي ""الديمقراطية"". أما علاقاته مع الآخرين، فكانت علاقات غير مأمونة من جانبه، فصفة الغدر جزء من شخصيته، وهو لا يتوانى عن القيام بأي عمل، دون النظر إلى العواقب، يقابل الإحسان بالإساءة، والتسامح بالغدر، لم يسلم من شر فعله ولسانه أحد، حتى أبناء شعبه الذين هربوا خوفاً من بطشه، فلاحقهم في دول العالم وصفى وخطف من استطاع الوصول إليه منهم، كان ملاذ الثوريين الذين اعتقدوا أن حياتهم وأسرارهم محفوظة عنده، ثم باعهم بثمن بخس، هو ضمان سلامته. بل إنه لم يحفظ للمملكة وقوفها معه وإنقاذه من أزمات عديدة، من أصعبها أزمة لوكيربي، وما تبعها من عقوبات دولية على ليبيا، فكان أن دبر عديدا من المؤامرات، طالت إحداها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، الذي قابل الإساءة بالإحسان والتسامح. جيرانه كانوا يخشون جنونه على أبنائهم العاملين في ليبيا، فكان إذا أراد الانتقام من زعيم، سرح مواطنيه عبر الحدود، ولم يسلم من ذلك حتى الفلسطينيون الذين طالما حشرهم على الحدود المصرية. صمود القذافي، وإن كان ثمنه غالياً، إلا أنه سيجعل الشعوب العربية تدرك أن الثورة ليست نزهة تنتهي بسقوط النظام، وإنما قد يكون الثمن غالياً ومدمراً على الدولة والشعب. فترة حكم القذافي خزينة من الأسرار، وسقوطه سيكشف أموراً كثيرة، وستخرس ألسنة كثير من المرتزقة، الذين كان القذافي مصدر تمويل لهم. قرأوا سيرة الحاكم بأمر الله، وستعرفون أن القذافي مستنسخ منه، فهل تكون نهايته كنهاية الحاكم بأمر الله؟ أم يصمد ليستقل بجزء من ليبيا، ولو لفترة مؤقتة؟