ثمة حقائق ووقائع سياسية واجتماعية مذهلة ، تكشفها الأحداث والتطورات المتسارعة التي تشهدها الساحة الليبية .. فالنظام الليبي كشف عن حقيقته الدموية والقمعية ، والتي مارس كل أنواع القتل والإبادة بحق شعبه الأعزل .. لهذا فإننا نجد أن عدد ضحايا الأحداث الليبية يفوق أعداد كل الضحايا في كل الدول العربية التي شهدت تطورات وتحولات سياسية واجتماعية مماثلة .. فالنظام الليبي أبان عن وحشية قاسية حيث استخدم كل أنواع الأسلحة تجاه المتظاهرين الذين يطالبون بحقوقهم السياسية والمدنية وتطوير أحوالهم السياسية والدستورية والاقتصادية .. وبدل أن يستمع زعيم هذا النظام إلى مطالب الشعب الليبي المشروعة والمحقة ، واجهها بآلة القمع والقتل ولا زال رمز هذا النظام يهدد شعبه بالمزيد من القتل والاقتتال تحت عناوين ويافطات مختلفة .. فما يتعرض إليه الشعب الليبي اليوم هو أقرب إلى الإبادة الجماعية التي تعرضت إليها بعض الشعوب في حقبة الاستعمار المباشر لها .. فالنظام يمارس سياسة الأرض المحروقة ، إما أن يستمر النظام بكل شخوصه ورموزه ، أو حروب قبلية واقتتال داخلي وتدمير لكل مظاهر الحياة في مختلف المدن الليبية .. كل الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة اليوم ، تؤكد لنا أن الاستقرار السياسي والاجتماعي في دولنا ومجتمعاتنا ، ليس وليد الغلبة والهيمنة ومنع قوى المجتمع المختلفة من التعبير عن ذاتها وحقوقها ، وإنما هو وليد ثقة الناس بالنظام السياسي وقبولهم به ، وأنه يمثلهم ويدافع عن حقوقهم ومصالحهم .. فالمعادلة التي يسعى النظام الليبي إلى إرسائها في المشهد الليبي في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الشعب الليبي ، هي أن الشعب الليبي مخير بين خيارين أساسيين : إما استمرار الخضوع إلى النظام السياسي الحالي أو القتل والتدمير العشوائي الذي لا يفرق بين مدينة أو أخرى .. ويبدو أن الأمور تتجه إلى استمرار عمليات القتل والإبادة التي يتعرض إليها الشعب الليبي المظلوم .. فالشعب الليبي مصمم على استرداد حقوقه وإسقاط نظامه الذي مارس بحقه كل أنواع الظلم والحيف ، وإن آلة القتل والتدمير لن تثنيه عن الدفاع عن حقوقه والعمل بكل الوسائل السلمية لإسقاط نظام معمر القذافي .. وعلى ضوء تطورات الأحداث المتسارعة والتي تؤكد قرب انهيار نظام القذافي ، نود قراءة هذا الحدث بكل جوانبه من خلال النقاط التالية : 1-إن عدد القتلى ومنذ الأيام الأولى لاندلاع ثورة الشعب الليبي وطبيعة الأسلحة المستخدمة في قمع المتظاهرين ، كلها تؤكد على حقيقة واحدة وهي أن النظام الليبي هو نظام دموي – قمعي ، وأن كل الشعارات التقدمية التي كان يحملها ، هي شعارات لا تمت بصلة إلى واقعه وحقيقته الاجتماعية والسياسية والأمنية.. وأن الانفصال العميق بينه وبين شعبه بمختلف مكوناته وأطرافه ، هو حقيقة شاخصة ، وأكدتها طبيعة الأحداث والتطورات التي رافقت الأيام الأولى للثورة الشعبية في ليبيا .. حيث التداعي والتفكك الذي حصل في أطراف هذا النظام إذ أعلن بعض العسكريين والدبلوماسيين والإداريين عن استقالاتهم من نظام القذافي ، والتحاقهم بصفوف الشعب .. فالقاعدة الاجتماعية للنظام ، قاعدة ضيقة , وأن مفاصل الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها وثرواتها بيد فئة قليلة ، وأن عنوان الجماهيرية لا يعكس حقيقة النظام وما يجري في أروقته المختلفة .. فهو نظام مغلق ويعتمد على عصبية قبلية يستخدمها حين الحاجة للدفاع عن نفسه وقمع معارضيه .. ولعل الخطبة التهديدية التي أطلقها معمر القذافي ، هي أبرز مصداق عن طبيعة النظام في ليبيا والقاعدة الاجتماعية التي ينطلق منها ، وطبيعة رؤيته للخريطة الاجتماعية والسياسية في ليبيا .. فالجماهيرية الشعبية التي يبشر بها القذافي ، ما هي إلا قبلية مقيتة واحتكار شامل لكل عناصر القوة والثروة في ليبيا .. فالشعب الليبي مغيّب ومحروم من كل شيء ، والقذافي ومحيطه الخاص الضيق هو الذي ينعم بكل خيرات وثروات الشعب الليبي .. 2 – حينما يقوم النظام بسفك دماء شعبه واستخدام أقسى العقوبات بحقه بدون جرم قد ارتكبه ، حينذاك تزداد الفجوة بين النظام والشعب ، وتتسع الهوة بين الدولة والمجتمع ، وتتوفر كل أسباب عدم الثقة .. والذي جرى ويجري هذه الأيام في ليبيا لا يخرج عن هذا النطاق .. بمعنى أن دعوات الحوار التي أطلقها بعض رموز النظام ، لم تعد مجدية ولن يصدقها أحد .. والسبب في ذلك هو بحر الدماء التي سفكها زبانية النظام .. فحينما تسيل الدماء ويزداد القتل والتدمير ، تتراجع مصداقية كل دعوة إلى المصالحة والحوار .. والنظام الليبي بوحشيته وغطرسته وجنونه في معاقبة المحتجين والمطالبين بحقوقهم ، لم يجعل خط رجعة لأحد .. فإما أن ينتصر الشعب وينهي نظام القذافي الذي مارس كل أنواع الظلم والحيف بحق شعبه ، أو يتمكن النظام عبر سياسة الأرض المحروقة ، من القضاء على ثورة الشعب الليبي .. فلا أنصاف حلول في الوضع الليبي .. ولكن كل المؤشرات والمعطيات تؤكد أن الشعب الليبي قادر على الصمود والانتصار .. وأن النظام السياسي حينما يفجر في خصومته مع شعبه ، فإنه هو السلاح الأخير الذي بيده .. لهذا فإن صبر وصمود الشعب الليبي ، سيقودانه إلى الانتصار مهما كانت التضحيات ، ومهما كان العنف الأعمى الذي يمارسه النظام بحق المطالبين بحقوقهم .. ولقد آن الأوان في ليبيا لإعادة الحق إلى أصحابه ، وإنهاء حقبة مظلمة من حياة الشعب الليبي .. والتهديد باستخدام السلاح ضد أبناء الشعب الليبي ، لم يعد يخيف أحدا ، لأن كل الترسانة العسكرية الليبية استخدمت ضد المتظاهرين ، ومع ذلك لم تقف المظاهرات والاحتجاجات التي تطالب وبإصرار إنهاء حكم العقيد القذافي .. 3 – كل الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة اليوم ، تؤكد لنا أن الاستقرار السياسي والاجتماعي في دولنا ومجتمعاتنا ، ليس وليد الغلبة والهيمنة ومنع قوى المجتمع المختلفة من التعبير عن ذاتها وحقوقها ، وإنما هو وليد ثقة الناس بالنظام السياسي وقبولهم به ، وأنه يمثلهم ويدافع عن حقوقهم ومصالحهم .. فالأنظمة العربية التي تهاوت خلال أيام قليلة ، كانت تمتلك أجهزة ضخمة للرقابة والمنع والقمع ، ولكنها لم تستطع أن تحافظ على استقرار مزيف ، فكيف يمكنها أن تبني استقرارا حقيقيا وعميقا؟! وحده رضا الناس والشعب بكل فئاته وشرائحه ، هو الذي يضمن الاستقرار ويحقق الأمن مهما كانت الصعوبات والتحديات .. 4 – لهذا فإننا نعتبر أن ما يجري في المنطقة العربية اليوم ، مهما كانت صعوباته وتحدياته ، فإنه يعيد تشكيل القوة الاستراتيجية للعرب على أسس جديدة .. فالقوة العربية الحقيقية ، لا تبنى بوأد الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان في المجتمعات العربية ، بل تبنى بتوسيع دائرة المشاركة السياسية وإدماج كل القوى والمكونات المجتمعية في الحياة العامة.. وإن ما يجري اليوم هو تصحيح لخلل تاريخي ، عانت منه العديد من الشعوب العربية .. لهذا فإن المنطقة العربية دخلت في مرحلة جديدة وفق كل المقاييس والاعتبارات .. وإن تطوير الحياة السياسية والمدنية في المجتمعات العربية ، سيساهم في بناء القوة العربية على أسس تمكنها من مواجهة المشروع الصهيوني .. فدمقرطة الحياة العربية ، وبناء الأنظمة السياسية في العالم العربي وفق مقتضيات الحكم الرشيد هما اللذان يمكّناننا من مواجهة المشروع الصهيوني ، وإعادة الاعتبار إلى المشروع الحضاري للعرب..