أثبتت الحكومات الجمهورية العربية، المدنية والعسكرية، فشلها على مر العصور في عدم قدرتها على تحقيق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية لشعوبها، فهي لم تقدم سوى العنف، والديكتاتورية، وقمع الحريات، وتثبيت السلطة، والعمل على تلميع أنظمتها، ومجاراة الفساد الإداري والمالي، وظلت غائبة عن معاناة شعوبها، تتعالى فوق عروشها السلطوية القائمة على التضليل، وحماية مصالحها من دون النظر إلى حقوق الشعب في توفير الحياة الكريمة الآمنة برفع المستوى المعيشي للفرد، وتأمين لقمة العيش، والقضاء على الفقر والبطالة، والرقي بالاقتصاد الوطني، وتنميته لمصلحة الشعوب وخدمتها بالخروج من الفقر الذي كان ولا يزال هو المعضلة الكبرى في تحريك الشعوب نحو الغضب، والثورة، للحصول على مطالبها المشروعة في الحرية، والديموقراطية، والتوازن الاجتماعي. ليس من المعقول أن تتمتع بعض الطبقات بالثروة للحد الذي تنعدم فيه الطبقة الوسطى، وتدني الطبقات الأخرى إلى ما تحت خط الفقر، ليختل التوازن الطبقي، وتموت الطبقات الدنيا بفعل الظلم، والقهر واستحالة الحياة المعقولة، وأنظمتها تتلاعب بالثروات، وتختلسها لمصلحتها الذاتية، وهي المؤتمنة على مصالح الشعب وتحقيق رفاهيته. لقد استمعت إلى مطالب المتظاهرين في ثورة مصر الأخيرة من خلال متابعتي للفضائيات العربية، والمصرية، ووجدتها كلها تنصب في حقيبة الحياة المعيشية، إذ تصرخ امرأة بأعلى صوتها ترجع سبب مشاركتها في المظاهرة مع أبنائها إلى أن الحكومة قامت بإزالة منزلها البسيط في الحي العشوائي، ما جعلها تنصب خيمة في الشارع تجمعها وأسرتها التي تتضور جوعاً، وترتعش من وطأة البرد شتاءً، وتحترق بلظى الشمس صيفاً، بينما ينعم المسؤولون في قصورهم، ويرتع أولادهم في النعيم، واللهو، والسفر وتبديد المال، إنه لمخزٍ أن يعيش المواطن في وطنه بلا مسكن، أو عمل، كلاجئ تقطعت به السبل. أما الرجل العجوز الذي سقطت دموعه فهو يريد توظيف أولاده الذين تعب في تعليمهم مع البنات المحبطات بالفراغ وقلة ذات اليد، ويقسم أنهم لم يتمكنوا من تناول الطعام الخشن إلا مرة أو مرتين في اليوم، في ظل غلاء الأسعار، وندرة المال في أيديهم. امرأة أخرى أخذت السماعة من المذيع وقالت بصوت موجوع «لقد اعتدى النظام على عربية الكشري التي أسترزق منها وأطعم عيالي»، ورجل آخر يقول «إنه عاش حياته مغترباً في بلاد الله ولما تمكن من جمع تحويشة العمر قرر أن يستثمرها في مشروع اقتصادي صغير لحماية أسرته من غائلة الفقر»، ولكنه وجد العراقيل من الجهات المسؤولة التي ماطلته بل وبطريقة ما تمكنوا من الاستيلاء على ماله، حتى غدا - وكما يقول - متسولاً في بلده التي سلبته كرامته، وماله، وإنسانيته. كل هذه المطالب هي في حد ذاتها مطالب جوهرية لا تعدو نطاق لقمة العيش المشروعة لكل مواطن عربي في دولته، وهي حق مستحق ومشروع له يكفله الدين، والدستور، والتشريع، لكن هذه المطالب أصبحت هي الحلقة الأضعف التي تبحث عنها الشعوب وتتجاهلها السلطة. إن الخدمات الأساسية والضرورية من مسكن، وماء، وكهرباء، وأعمال للمواطنين مع بنية تحتية صلبة للوطن هي المطلب الأول الذي تبحث عنه الشعوب في كل أوطانها، قبل أن تبحث عن الكماليات التي أصبحت بدورها جزءاً لا يتجزأ من الضروريات، المسايرة للعصر في تقنياته وإنجازاته المتطورة، خصوصاً أن العالم يعيش ثورة معلوماتية وإعلامية هائلة، تكشف الأحجية، وتسقط الأقنعة المتوارية خلف الاستبداد. ثورة «الياسمين» في تونس، وثورة «النيل» في مصر، ثورتان تلتقيان في أهدافهما، وخارجتان من رحم الغضب والقهر، والانتصار لإرادة الشعوب، لتكون الإطاحة من علياء الهرم السلطوي إلى أسفله عبرة للحكومات العربية الأخرى.