لن أنظر إلى الثورة المصرية الهائلة والمباغتة، فلست مؤهلا لذلك ولا مخولا به، كان من حق الشعب المصري الذي انتخب حسني مبارك أن يقوله له ""كفى""، ومن حق حسني مبارك أن يطلب من شعبه أن يكمل مدته التي انتخبوه لها، تلك قواعد الديمقراطية. عندما اندلعت المظاهرات نشب في قلبي هم أفقدني التركيز، لم تكن قضيتي في من سينتصر، فتلك قضية مصر، وهي التي ستختار، فرحت مع كل المصريين عندما تنحى مبارك، ذلك أن هما كبيرا قد انزاح، كنت قلقا على أن تنجرف مصر نحو عراق آخر، أو أن يستغل الأوضاع المتأزمة قوم متأزمون. عندما تنحى مبارك نزع فتيل قنبلة موقوتة لا أحد يعرف أين سينتهي مدها لو انفجرت ولن ينتصر فيها أحد، لا شباب مصر ولا نظام مبارك. تنحى مبارك ""فقط"" عندما أجمع الشعب المصري أمره واختار الشباب وقال له ""كفى"" فاستجاب حسني مبارك ""بسلام""، وخرج من منصبه. لم يكن حسني مبارك طاغية، ومن المؤلم أن تتغير النفوس والمواقف إلى هذه الدرجة، فبين ليلة وضحاها أصبح حسني مبارك ""طاغية""، وهو الذي منح المصريين حرية ليس لها مثيل في العالم العربي، ودول المنطقة تشهد بهذا، ففي عهده قامت مظاهرات عديدة ضده، منها حركة كفاية، وسمعت بنفسي من يصرخ ضد حزبه في مهرجانات عدة وفي مواقع قريبة من التحرير. بل في نظري، أن ""سلمية"" المتظاهرين لم تنجح إلا لأن ""حسني"" لم يكن طاغية. لقد خرج حسني مبارك ""حزينا""، ليس لأنه فقد منصبه (في اعتقادي) بل لأن هناك من أنكر تاريخه وشوهه. من حقنا (كأمة عربية مسلمة) أن نختلف مع مبارك في بعض مواقفه (خاصة غزة)، وقد لا نرضى تبريراته، لكنه ليس سفاحا وليس طاغية ويجب أن نحترم تلك الشخصية التاريخية مهما اختلفنا معها. هذا المقال يتأمل في الأحداث الاقتصادية التي من المتوقع أن تتبع ثورة مصر، فالبعض يعتقد أن الاقتصاد المصري سيكون أكثر انفتاحا وسيعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية. لا جديد تحت شمس ثورة مصر هنا، فأسطوانة جذب الاستثمارات الأجنبية يمكن تشغيلها في أي وقت ومكان، المهم أن تقتنع الاستثمارات الأجنبية بأن تأتي إلى مصر، لا أعتقد أن نظام مبارك كان يقف حجر عثرة في طريق الاستثمارات الأجنبية أو أنه يضع قيودا كبيرة أمامها. البعض قد يقول - كما هو شعار الثورة - إن القضاء على الفساد سيجلب الاستثمارات الأجنبية، وأنا أقول لو كان الفساد رجلا لهان الأمر، لكن ما الفساد وكيف ستعرّفه الثورة المصرية الجديدة؟ ما الفساد الذي منع الاستثمارات الأجنبية سابقا، وهل رحل بمجرد رحيل مبارك؟ هل هو الحزب الوطني؟ لقد رأينا كيف أصبح الشعب المصري كله خارج الحزب الوطني، حتى أولئك الذين كانوا قبل نحو شهر من أكبر منظريه الإعلاميين والمسبحين بحمده ليل نهار، كيف أصبحوا بعد الثورة من أعدائه وكبار محاربي الفساد في مصر. ذهب مبارك نعم، فهل ذهبت مصر وثقافة مصر؟ من يتابع كل القنوات الفضائية والصحف المصرية والكتاب يجد الأسماء لم تتغير، والأقلام هي الأقلام، فأين ذهب نظام مبارك، وأين ذلك المدعو فسادا؟ بل أين كان؟ إنني أقولها وبكل ثقة إن التغيير الحقيقي في مصر ليس ببساطة قرار تنحي مبارك. لكن مع كل هذا فإن ملامح التغيرات الاقتصادية تبدو في الأفق مع الوقفات الاحتجاجية المطالبة بزيادة الأجور والرواتب في مصر، كما أن رياح الإصلاحات الاقتصادية بدأت تهب على المنطقة وقد تكون مثيرة للأسعار والرواتب في كل المنطقة العربية، وهذا قد يؤثر في حركة واتجاهات العمال، خاصة العمالة المصرية في الأيام والسنوات القادمة. إذا لم تنعكس الثورة المصرية على تغير مستويات الأجور فلن يتغير حال المصريين - في نظري - وستذهب الثورة هباء، وإذا زادت الرواتب فإنها قد تتسبب في ارتفاع تكلفة المعيشة في مصر؛ نظرا لانعكاس زيادات الرواتب على مستوى الإيجارات السكنية والأسعار بشكل عام، وهذا بدوره سيضغط على المصريين في المملكة والخارج لطلب زيادات تغطي الزيادة في تكلفة المعيشة هناك. قدمت مصر ولسنوات طويلة للمملكة ودول الخليج عمالة جيدة وبتكاليف معقولة، لكني أعتقد أن الحال قد تتغير مع ارتفاع تكلفة العمالة المصرية وقد تضطر بعض الشركات إلى رفع الرواتب أملا في إبقاء العاملة المصرية المحترفة وذات الخبرة الجيدة في مواقعها. والفيصل في الأمر هو وجود البديل الجاهز من خارج مصر. لن يقف تأثير الموجة الاقتصادية عند حد الأجور وتكلفة المعيشة، بل سيؤثر حتما في السياحة، فمصر جاذبة للسياحة، خاصة من أبناء الخليج لقربها من ناحية ولانخفاض تكلفة المعيشة من ناحية أخرى، فأي ارتفاع في التكاليف بشكل مبالغ فيه قد يؤثر في سوق السياحة في مصر، وقد تتأثر حركة النقل الجوي بكل هذه الأحداث. تأتي هذه الثورة المصرية مصاحبة لإنشاء عدد كبير من الجامعات السعودية في المملكة بتخصصات متنوعة متعددة، الذي خلق بدوره مشكلة جذب الأساتذة المؤهلين في التعليم العالي. كانت مصر قادرة على سد الفجوة بما تقدمه من متخصصين برواتب متوسطة في الغالب تفرضها لائحة الأساتذة غير السعوديين التي أصدرتها وزارة التعليم العالي. الأسئلة حول هذه اللائحة تتصاعد، فهي أصبحت عائقا لجذب الأساتذة البارزين في تخصصاتهم؛ كونها قديمة لم تستجب للتغيرات الاقتصادية في المملكة ولا في العالم المحيط، ولا حتى للمنافسة الشرسة بين الجامعات السعودية لاستقطاب الكفاءات الأفضل، فهل ستصمد هذه اللائحة بسلم رواتبها الضعيف أمام الثورة المصرية المتوقعة على الرواتب؟ إذا لم تصمد فما التوقعات والتغيرات وكيف سيقبلها الأستاذ السعودي؟ وإذا صمدت فمن البديل للأستاذ المصري، الذي من المتوقع أن يرفض العمل في بلد يقدم له مستوى راتبه نفسه الذي يجده في مصر؟ هذا إذا نظرنا إلى الجامعات على أنها الأكثر عطشا.. فما الحال في باقي مؤسساتنا ومنها الصحة؟ إن الأمواج الاقتصادية للثورة المصرية قادمة ويجب أن نستعد لها.