في تعليق لأحد القراء على مقال لي أكدت فيه أن لا سياسة دون مبادئ أساسية تحيط بها، وتمنعها من السقوط والهوي في النفعية المحضة، وفي البرغماتية المفتوحة دون ضوابط قال هذا القارئ : لماذا لا نترك أهل السياسة يتصرفون حسب اجتهاداتهم ، فهم محتاجون لأمور قد لا ندركها ولا نقبلها ، ونحن ننتقد الساسة لأننا بعيدون عنهم وعن واقعهم وحاجتهم لبعض التنازلات ، كلام هذا القارئ يوحي بأنه يمكن أن تكون هناك سياسة دون مبادئ معينة تضبطها ودون أخلاق أيضا ، وهذا المفهوم يظنه كثير من الناس في بلادنا ، أنه مفهوم ساذج وسطحي ولا يمت إلى الفكر السياسي الحقيقي بصلة . وقبل أن أوضح الآثار العملية لسياسة دون مبادئ دون أخلاق ، أود أن أطلع القارئ وأمثاله على آراء أناس في الغرب حول هذا الموضوع ، هم مفكرون وعلماء اجتماع وسياسة ، يقول عالم الاجتماع الفرنسي ( غوستاف لوبون ) : إن أسباب سقوط جميع الأمم الذي يذكرها التاريخ بلا استثناء هو تغير طرأ على مزاجها العقلي ترجع علته إلى انحطاط الأخلاق ويقول ( روجية غارودي ) عن الميكافيلية التي تعتقد أن الغاية تبرر الواسطة : هي الحيوانية السياسية التي تحددها تقنيات الوصول إلى السلطة ، وليس التفكير في الغايات الإنسانية للمجتمع ) ويقول ( جاك مارتين ) : " السياسة الصائبة في فلسفة الميكافيلي سياسة لا أخلاقية ، ولكنها ناجحة في إحراز السلطة ، فهل من الضروري للإنجازات السياسية أن تكون شريرة ؟ أم بإمكان الفرد أن يرعى العدالة وأن يعمل على اكتساب القوة ، ونظرية ( ميكافيلي ) قصيرة النظر لأن قوة الشر هي قوة فساد ، وهي تدمر نفسها ، والعدالة بطبيعتها تسعى إلى إدراك النجاح في مقبل الأيام كما يتطور النسغ السليم إلى ثمرة تامة ، وأما الميكافيلية فهي كما يفعل السم بالنسغ حيث يصب في الشجرة المرض والموت.." وينقل مالك بن نبي عن الكاتب (بورك) :"ومن الواضح أن السياسة التي تجهل قواعد الاجتماع وأسسه لا تستطيع إلا أن تكون دولة تقوم على العاطفة في تدبير شؤونها " وبما أن السياسة تنظم علاقات مجتمعية ، فمن المفروض أن تراعي الجانب الأخلاقي ، وإذا كان هناك سياسيون لا خلاق لهم ، فنحن لا نسمي هذا سياسة بل هو دجل وفساد ، ويذهب المفكر الجزائري مالك بن نبي إلى وصم فترة التدهور الحضاري بأنها فترة سياسية : "إذا أردنا أن نسمي مرحلة تدهور الحضارة الخالية من الروح والعقل لأطلقنا عليها بلا تردد اسم المرحلة السياسية بالمعنى السطحي لكلمة سياسة " نعى القرآن الكريم الذين يلبسون الحق بالباطل ، أي يلجأون إلى الخداع اللفظي والفكري ، وخلط الأوراق ،إنها صورة السياسي الذي يموه على الجماهير كي تسير وراءه بينما نجد أن المبادئ الثابتة والجوهر الثابت يعطي المجتمع نوعا من الأمن واليقين ، ولأن أي عمل لا يكون موجها توجيها عقديا فما أيسر ما ينحرف ويبتعد عن الصورة الأولى التي رسمها أصحاب هذا العمل . قد يقول البعض : هذا كلام مثالي أو خيالي ، والحقيقة أنه ليس مثاليا ولا خيالا ، لأننا نعلم أن هناك متغيرات وهناك مرونة لابد منها في بعض المواقف ، ولكن الذي نؤكد عليه هو وجود الثوابت والمبادئ التي لا تتغير ولا تتبدل مع الزمن ولابد من الإصرار عليها . وإذا ذهبنا إلى التطبيق العملي ، لنرى بعض النماذج في العراق ماذا جنى الحزب الإسلامي من تعاونه مع أمريكا ودخوله مجلس الحكم بعد سقوط بغداد ؟ واستمات في الوصول لرئاسة مجلس النواب التي لا تغني عن الحق شيئا ، أليس هذا لأنه يفصل المبادئ والأخلاق عن السياسة ، وأصبح الوصول إلى السلطة والمناصب هو الغاية . وفي السودان ، ماذا استفادت حكومة الإنقاذ من التنازل عن مبدأ الوحدة ، ومن التساهل في بعض الأمور فيما يتعلق بتطبيق الشريعة وذلك تخوفا من الغرب ، لم تستفد إلا مزيدا من الضغط على أمريكا وحلفائها ، ومزيد من التدخل في شؤونها . لماذا لم يتفطن أهل السياسة هناك إلى تصميم أمريكا على انفصال الجنوب ؟ وأنها تعد بمساعدة الجنوب بعد الانفصال ويتدخل بعض زعماء أمريكا بشكل سافر وواضح في التشجيع على الانفصال ، والعجيب أن أمريكا تعد أهل الشمال بأنها سترفع السودان من القائمة السوداء إذا هو أتاح للجنوبيين باستفتاء نزيه كي يقرروا مصيرهم ، كيف تقبل حكومة السودان بالتنازل عن مبدأ الوحدة مقابل وعود لا يوثق بها ، لماذا لم يتفطنوا إلى أن انفصال الجنوب سيعني وجود بؤرة للمؤامرات على السودان ومصر ، وسيعني تشجيع أقاليم أخرى على الانفصال ، لماذا لم تنفصل الولايات الغنية في أمريكا عن بقية الولايات والتي هي أقل غنى ، ولماذا لم يمارسوا الخطاب الأناني للاستئثار بالثروة كما هي لهجة بعض المناطق في البلاد العربية ، والسبب هو وجود مبادئ معينة اتفقوا عليها ، فجعلت بينهم رابطة وثيقة ، ولكن عندما لا تستطيع السودان باتساعها الكبير أن ترتبط فيها الولايات برباط فيه العدل والإنصاف ، وفيه إصلاح البنية التحتية للجميع ، فسيكون مصيرها أن تؤكل من أطرافها ، وهذا مصير كل بلد كبير يوجد فيه أقليات دينية أو عرقية ويكون فيه التساهل المفرط ، حيث لا يلتقي الجميع على أسس ثابتة ولا تتحكم الأقلية في الأكثرية وتفرض شروطها التي تنبع من تقوقع على الذات ، أو تهويش من الخارج لإضعاف البلاد العربية والإسلامية . هل من السياسة التساهل في مكون أساسي من مقومات الهوية والأمة كما تساهلت الدولة الإسلامية بعد القرن السادس الهجري لتعميم اللغة العربية كلغة علم وثقافة وتخاطب ، فرجعت بعض الأقاليم الشرقية إلى اللغة الفارسية؟! ويرى الباحثون في شؤون الدولة العثمانية أن من أسباب ضعفها عدم تبنيها اللغة العربية كلغة رسمية ، والذين يتساهلون في مثل هذه الأمور الحيوية هل يرون في بريطانيا أو أمريكا لغة غير اللغة الإنجليزية ، رغم وجود أقاليم لها لغتها ولهجتها . إن ترك الحبل على الغارب سيؤدي إلى نشوء الدويلات والإقليميات الصغيرة ، وتستغل دول الغرب هذا الأمر ، - أمر التعصبات العرقية والدينية- للقيام بمزيد من التفتيت والتقسيم للعالم العربي والعالم الإسلامي. هل من السياسة القبول بعولمة السوق التي تجعل الأجيال القادمة مهددة بأن ترث أرضا قاحلة يصبح فيها الماء أعز من البترول والحيوان أغلى من الإنسان ؟! والذين يقبلون هذا بأنه واقع لا مرد له ، يرددون أيضا مقولة انتهاء عصر الأيدلوجيا، وكأن الإنسان يمكن أن يعيش دون هوية أو فكر أو ثقافة ، ودون أن يفكر في الكون والحياة والإنسان . نحن نعلم أن الدول الغربية مثلا تتصرف حسب مصالحها ، ولكن هناك مبادئ أساسية تتحكم في سياستها ، وعندما يأتي حزب المحافظين في بريطانيا إلى الحكم فإنه يطبق نظرته الخاصة إلى الخدمات الاجتماعية أو التعامل مع الدول الأخرى وكذلك عندما يأتي الحزب الجمهوري أو الديمقراطي إلى الحكم في أمريكا . والذي يقرأ مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق (توني بلير ) سيجد أنه انطلق في حربه على العراق وأفغانستان من منطلقات دينية زيادة على المنطلقات المصلحية . وأخيرا نسأل : هل من السياسة التوسط بين الذئب والحَمَل ، كما هي كثير من الوساطات العربية وآخرها الذين يمارسون هذه الوساطة في لبنان ،أنها مساعدة للمعتدي كي يتجرأ أكثر على الضعيف ، فالوساطة لا تكون إلا بين شريفين يحسنان تقديرها والتفهم لها . وهل من السياسة أن يساعد المجرم بحجة احتوائه ، هكذا تفعل بعض الدول المخدوعة عن نفسها فلا يزداد المجرم إلا أذى لشعبه وجيرانه ، وهل من السياسة أن يتصرف بعض الأشخاص وبعض الدول من خلال الأوهام والخوف من حاجز كبير يقف مرتفعا أمامهم ( أمريكا ) ولذلك يعملون بطريقة منخفضة وخائفة ، مما يزيدهم ضعفا و تشرذما .