أمير المدينة يرعى ندوة البركة للاقتصاد الإسلامي.. غداً    «سلمان للإغاثة» يدشن بالأردن برنامج "سمع السعودية" التطوعي    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير منطقة الرياض يكرم الفائزين بجائزة الملك فيصل لعام 2025    "السعودية للكهرباء" تشارك في معرض جنيف الدولي للاختراعات وتحصد خمس ميداليات    رئيس مجلس الشورى يستقبل عددًا من سفراء المملكة    جامعة الأمير سلطان تطلق "منارة الرياض الفضائية" في مقرها    وزير الطاقة الأمريكي يزور أرامكو السعودية في الظهران وحقل الشيبة    البنك المركزي السعودي: حصة المدفوعات الإلكترونية تصل إلى %79% من إجمالي عمليات الدفع للأفراد في 2024م    المظالم: معدلات الإنجاز فاقت 46 ألف دعوى    أمانة الطائف تحوّل موقع مهمل إلى رئة جمالية جديدة .    "زين السعودية" شريك إستراتيجي مع "جمعية لأجلهم "لتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة    الأمين : نهدف لإعداد جيل قوي لتمثيل المملكة في آسيأ 2034    فريق نيسان للفورمولا إي يحقق مركز الانطلاق الأول ونقاطًا مضاعفة في ميامي    بدء استقبال طلبات صرف تعويضات ملاك العقارات المستوفية للإجراءات في موقع الكدوة بمكة    السجن خمس سنوات لمواطن بتهمة الاحتيال المالي على 41 ضحية عبر منافذ البيع الإلكترونية    رياح نشطة على عدة أجزاء من مناطق المملكة    أمير نجران يعتمد الهيكل الإداري للإدارة العامة للإعلام والاتصال المؤسسي بالإمارة    صعود مؤشرات الأسهم اليابانية    بعد قرار مفاجئ.. إلقاء مدير مستشفى في حاوية قمامة    السودان يدخل عامه الثالث من الحرب وسط أوضاع إنسانية كارثية.. مكاسب ميدانية للجيش و"الدعم" ترد بمجازر دامية في الفاشر    تطوير التعاون السعودي الأمريكي بقطاع التعدين    "واتساب" تمنع الآخر من تخزين صورك وفيديوهاتك    مها الحملي تتألق في رالي الأردن وتحقق المركز الثاني عالميًا    4 أيام على انتهاء مهلة تخفيض المخالفات المرورية    59 بلاغًا عن آبار مهجورة في القصيم    السبتي: جودة التعليم أولوية وطنية ومحرك رئيس للازدهار    الجبير ومسؤول أوروبي يستعرضان التعاون المشترك    في إياب ربع نهائي دوري أبطال أوروبا.. برشلونة وباريس لحسم التأهل أمام دورتموند وأستون فيلا    الشرطي الشبح    الحقيقة التي لا نشاهدها    انعدام الرغبة    لا تخف    القوات الجوية الملكية السعودية تشارك في تمرين "علم الصحراء 10"    نائب أمير المنطقة الشرقية يعزي أسرة فيحان بن ربيعان    عدنان إبراهيم    تفوق ChatGPT يغير السباق الرقمي    5 مميزات خفية في Gemini    %13 نمو ممارسة السعوديين للألعاب الشعبية    الدرعية بطلاً لدوري الدرجة الثانية على حساب العلا    10 سنوات على تأسيس ملتقى أسبار    5 مكاسب بتبني NFC في الممارسة الصيدلانية    نادي الثقافة والفنون في جازان يحتفي بعيد الفطر في أمسية شعرية من أجمل أماسي الشعر    رونالدو يتوج بجائزة هدف الجولة 27 في دوري روشن للمحترفين    طرح الدفعة الثانية من تذاكر الأدوار النهائية لدوري أبطال آسيا للنخبة    اعتماد جمعية رعاية كبار السن بمنطقة جازان    الفلورايد تزيد التوحد %500    تأثير وضعية النوم على الصحة    دول غربية تعالج التوتر بالطيور والأشجار    ‏برنامج الإفتاء والشباب في مركز تدريب الأمن العام بمنطقة جازان    (16) موهوبة تحول جازان إلى كرنفال استثنائي    جلوي بن عبدالعزيز يعتمد هيكل الإعلام والاتصال المؤسسي بإمارة نجران    أمير تبوك يزور الشيخ محمد الشعلان وبن حرب والغريض في منازلهم    وقفات مع الحج والعمرة    الزامل مستشاراً في رئاسة الشؤون الدينية بالحرمين    الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر توقع مذكرة مع جامعة الملك خالد    شيخ علكم إلى رحمة الله    إطلاق 2270 كائنا في 33 محمية ومتنزها    أمير تبوك يعزي أبناء جارالله القحطاني في وفاة والدهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سوق الألقاب في عصر الدعاة

عاش ابن الأُخُوَّة الشافعي في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، وفي كتابه (معالم القربة في مطالب الحسبة) عقد باباً صغيراً عن الأطباء، وأشار إلى أن المسلمين زهدوا في هذا العلم حتى بلغ الحال أن بلداناً كثيرة لاتجد فيها طبيباً إلا من أهل الذمة (اليهود والنصارى)، وأرجع ابن الأخوة السبب إلى تهافت أبناء المسلمين على الفقه والتصدر للفتوى والانشغال بالخلافيات والجدليات، لأنه أصبح وسيلة الثراء والنفوذ والوصول إلى القضاء، على عكس الانشغال بالطب، وعدَّ الانشغال بالفقه على وفرة أهله وإهمالَ ماهو فرض كفاية (الطب) من ضحك الشيطان وغروره.
كان ابن الأخوة يصف الحال في أعظم حواضرالعالم الإسلامي وقتها وهي دمشق ، في نفس اللحظة التاريخية التي كانت أوروبا تودع آخر أيام العصور الوسطى مع عصر النهضة في إيطاليا ولاحقاً في بريطانيا وفرنسا وغيرهما. في تلك الفترة كان وسط الجزيرة العربية يغشاه شبه جهل مطبق وانعداماً من الفقه وعلم الشريعة إلا من أفراد قلائل.
وقبيل ظهور دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب وبعدها فإن عدداً قليلا من الحواضر في وسط جزيرة العرب كانت مكتفية بالحد الأدنى من الفقهاء، بينما عدموا تقريباً في معظم أصقاع الجزيرة على خلاف اليمن أو الحجاز في مكة والمدينة.
لم يكن من المعروف والشائع التمييز بين وظيفة الداعية والواعظ والشيخ والفقيه/ المفتي الذي يتولى مهام القضاء والفصل بين الناس، كانت معظم هذه المهام يتولاها الفقيه. وإذا قام مطوَّع المسجد وإمام الحي - ممن هو أدنى رتبة من الفقيه وأدنى من طالب العلم المتفرغ لعلم الشريعة- بالوعظ أعقاب الصلوات، أو في مناسبات أخرى كالكسوف والخسوف وسنوات الجدب وطلبِ السُقيا أو تدريس مبادئ الدين للعامة والصبية؛ فإن ذلك لم يكن يمنحه وصفاً أو لقباً يميزه عن غيره.
ومع قيام الدولة السعودية الثالثة أرسل الملك عبدالعزيز عشرات من طلبة العلم دعاة وأئمة ومنهم من تولى القضاء، وقلة من المتدينين المطوعة كانوا يجدون تأثيرهم بين أبناء البادية الذين انخرطوا في صحوة دينية في أوائل القرن الميلادي الماضي، لكنهم لم يكونوا يلقبون بالدعاة إلا في سياق المدح وسرد المزايا. لاحقاً ظهر الوعاظ والدعاة الجوالون مع ظهور جماعة التبليغ والدعوة في خمسينيات القرن الماضي/السبعينيات الهجرية، ومع أنهم كانوا يمارسون الوعظ بشكل رئيسي إلا أنهم لم يكونوا يعرفون بالدعاة، فضلاً عن أن الاعتراف الرسمي بهم كان محل شد وجذب.
إذاً لم يكن وصف (الداعية) شائعاً والسبب أن الشيخ /الفقيه كان هو من يقوم بكل الوظائف.
وصف الداعية عرف في التاريخ الإسلامي مع دعوة العباسيين ثم مع الفاطميين، ولكن (داعي الدعاة )كان يقوم بمهمة سياسية سرية وهي حشد الأتباع للإمام الذي قرب وقت ظهوره وقيادته للأمة.
في السعودية ظهر الدعاة مع ظهور دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب كما توضحه الرسائل والمكاتبات التي تعود إلى تلك الفترة وقيام الدولة السعودية في منتصف القرن الثامن عشر، وهم كانوا يقومون بمهام متعددة تتضمن الإمامة في الصلاة والضبط الديني وتلقين التعاليم العقائدية والضبط السياسي بالتأكيد على لزوم الطاعة للإمام. وهي وظيفة كان يقوم بها عالم الدين الفقيه و(المطوَّع) الذي أتقن قراءة القرآن وملك القدرة على الإجابة على مسائل الصلاة والطهارة وماشابهها، ولكنهم لم يكونوا يوصفون بالدعاة تمييزا لهم عن غيرهم من المتدينين الذين يتوزعون مهام رجل الدين من الإمامة والإفتاء والقضاء والاحتساب والوعظ. ولكن غالباً ماكان الوعاظ على ندرتهم يشابهون كثيراً من نسميهم الدعاة اليوم. وهم فئة أعلى من المتدين العادي، وأدنى من طالب العلم المتفرغ لعلم الشريعة. إلا أن وصف (الداعية ) طفا على السطح بشكل واضح مع الصحوة الدينية في العقود الماضية.
ظهور الألقاب والأوصاف مرتبط غالبا بمدى تعقيد ثقافة كل مجتمع والتنوع داخله. هناك ألقاب تطلق للتعريف وتمييز شريحة عن شريحة أو فئة أخرى. وهناك صفات وألقاب يكون لها حمولاتها الثقافية والاجتماعية التي ولدت نتيجة التطورات والتحولات، ومرت بأطوار اجتماعية حتى أخذت صيغتها النهائية. ولو استعرضنا الآن كثيرا من الصفات والألقاب والمسميات لرأينا أنها تكثر وتزدهر مع ازدهار كل مجتمع وتعقده. حينما نقارن بين قاموس المدينة والقرية نجد فرقاً كبيراً ثراء نسبياً في الحواضر الكبرى، وفقراً في الريف والقرية، القاموس عند أبناء القرية أقل بكثير عن قاموس أبناء المدينة، هكذا كان الحال في الماضي عندنا.
ظهر مسمى (الداعية) في العقود الأربعة الماضية بعد ظهور فئة المتدينين الذين اقتحموا عالم الإرشاد ولكنهم لم يتخصصوا بعلم الشريعة، ولم يتصدروا للإفتاء، وكانوا يحتاجون إلى غطاء ديني ووصف شرعي يسمح لهم بالتحرك ويمنحهم الاعتراف.
علينا ألا نغفل أن الإسلام جعل كل مسلم داعية ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن)، وكان بعض الصحابة يفدون إلى الرسول في مكة أو المدينة فيسلمون ثم يعودون إلى أقوامهم دعاة ومنذرين، وخير مثال على ذلك مصعب بن عمير الذي بعثه الرسول إلى أهل المدينة.
وفي نهاية الثمانينيات برزت أسماء كانت قانعة في البداية بأن توصف ب"الدعاة" وكان وصفا دونياً يجعلهم تحت سطوة الفقيه وعالم الدين، ومع صعود الخطاب الديني الصحوي وتحول بعضهم إلى معارضين للحكومة، سعوا إلى الاعتراف بهم كعلماء دين، فحاولوا الحصول على تزكيات من علماء كانوا يمثلون مرجعية لهم، وضاعف بعضهم جهده للتعلم والدراسة سراً على بعض أقرانهم، ولكن بعيداً عن أعين طلابهم وأتباعهم ، ثم عقدوا مجالس يدرِّسون فيها الفقه ويشرحون السنة، وبدؤوا بالإجابة على الفتاوى على استحياء، واليوم نرى بعضاً منهم يحرصون أن يُقدَّموا في المؤتمرات والفضائيات على أنهم علماء دين، وكان بعض منهم علماء شأن نظرائهم مؤهلين للفتوى وفي أسوأ الأحوال لم يكونوا أقل معرفة من آخرين منحوا الرخصة والإذن الرسمي.
آخرون منهم كانوا في تخبط وتيه، ومع نهاية التسعينيات وجدوا أنفسهم على مفترق طرق، أين يضعون أنفسهم؟ ولكن طموحهم نحو الظهور والاعتراف لم يدعمه بناء ثقافة شرعية فقهية تؤهلهم لأخذ مكان بين الأسماء التي وصلت إلى مبتغاها، وبين فئة كانت صاعدة وساعدها انكفاؤها طوال التسعينيات على الدراسة والطلب. في البداية وصفت هذه الفئة التائهة نفسها ب(الناشطين)، وبعد فترة وإلحاح استطاعوا أن يظفروا من بعض القنوات بوصف (مفكر سعودي)، وآخرون أصبحوا أكثر طموحاً فتخصصهم في زراعة البطاطا والبستنة كان مصدر قلق لهم وشعور بالمهانة، مما دفعهم إلى السعي الحثيث للحصول على أي اعتراف حتى ولو من جمعية سياسية فضفاضة تسامحت مع كل من انتسب إليها ومنحته لقب عالم دين، مثل اتحاد علماء المسلمين الذي يهيمن عليه الإخوان المسلمون.
الخلاصة أن (الدعاة) جزء من المجتمع و استطاعوا إثبات وجودهم وهم عامل أساسي في تشكيل ثقافته وإنتاج الأوصاف والمفاهيم التي تشكل العقل وتؤطر التفكير، وهم كغيرهم من كل فئات المتدينين لايختلف تأثيرهم عن تأثير نظرائهم، فهم في بلد سني سلفي يقدمون خطابا ورؤية واحدة تعضد بعضها بعضاً وإن تنوعت اللغة والطريقة واختلفت منزلة من يمثل الدين. وهم اليوم يفوقون الفقهاء وعلماء الدين التقليديين عدداً وتأثيراً، وقد أصبح حالهم اليوم كحال وفرة الفقهاء في عهد ابن الأخوة ، فقد وجد معظمهم في سوق الدعاة مكاسب كثيرة وأرباحاً سهلة وتجنبوا الطريق الطويل والتعلم وسهر الليالي فكثر الدعاة وقل الفقهاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.