يدخل بيته فيرى زوجته مع رجل، فتسود الدنيا في وجهه، ويبحر به الحزن بعيداً، فيدرك أنه لا راحة لمركبه إلاّ على مرافىء حبيبه صلى الله عليه وسلم، الذي حرره وغير طريقة تفكيره، وأقام بدولته الجديدة نظاماً للعدل غير مسبوق. وقف بين يديه، وبث شكواه إليه، لكن الإجابة زادت أوجاعه، فقد طالبه نبيه بأربعة شهود، وإلا فإنه يعرض نفسه لعقوبة القذف، فزوجته حسب نظام الشريعة تظل بريئة حتى تثبت إدانتها. فتأوه هلال بن أمية وهو لا يملك دليلاً قائلاً: (يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة!، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول:البينة، وإلاّ حد في ظهرك - البخاري). تقلب بين جمر الخيانة والجلد منتظراً الفرج من السماء، موقناً أن الله مغيثه لا محالة، فأقسم ثقة بالله: (والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد)، فأنزل الله على نبيه آية (اللعان)، فناداه ونادى زوجته وقال لهما وكأنه يطالبهما بالانصراف والستر :(إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب - البخاري) كررها ثلاث مرات، فرفضاها ثلاث مرات، فنادى هلالاً وأخبره أن لا سبيل إلى إرجاع مهره إن تطلع إلى ذلك، ثم أمره أن يقول أربع مرات: (أشهد بالله إنني لمن الصادقين) فقالها. ثم طلب منه أن يقول: (لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين) فقالها، ثم طالب الزوجة أن تقول أربع مرات: (أشهد بالله إنه لمن الكاذبين) فقالت، ثم طالبها أن تقول: (أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين)؛ (فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم - البخاري)؛ ففرق النبي بينهما دون ضجيج أو تشهير، لتذهب من طريق ويذهب من طريق. بعدها طالب بعض أصحابه بتأمل ابنها إذا ولدته، فإن كان كذا فهو ابن هلال، وإن كان كذا فهو ابن الآخر، ومرت الأشهر فولدت المرأة طفلا يشبه الآخر، ولما رآه عليه السلام قال كلمته الدستور: (لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها - مسلم). نبي يمده الله بالمعجزات ويطلعه على الغيب، لكنه يطالبه عند الحكم والقضاء أن يلتزم ب(التشريع، النظام) الذي أنزل عليه، فالغيبيات والمعجزات سترحل معه يوماً، والشريعة نظام للبشر، لذا كان أول الملتزمين بما ألزم به البشر، فإذا كانت هذه المعجزة الغيبية لم تقفز على النظام، فكيف تقفزه الظنون والمحسوبية والشكوك؟ وفي أحد الأيام اشترى صلى الله عليه وسلم فرساً من أعرابي فلما ذهب ليحضر الثمن مرّ رجل فزاد في ثمنه فباعه، فلما عاد النبي أنكر الأعرابي بيعه، ولما أكد عليه السلام، طالبه الأعرابي بإحضار شاهد؛ فسمعه الصحابة فجاءوا ينهرون الأعرابي، فلم يستغل غضبهم له أو مكانته، ولم يأمر بحبسه لكذبه، وتحايله على (النبي، الحاكم، القاضي، الخصم) لا سيما والأعرابي غريب عابر سبيل، بل التزم بما ألزم أمته به، لا استثناء لأحد ولو كان نبياً؟. واشترى عليه السلام دابة من أعرابي آخر بستين صاعاً من التمر، فذهب لإحضار التمر فلم يجده، فعاد للأعرابي معتذراً، فصاح الأعرابي في وجهه بكلمة غاية في القبح.. متهماً إياه بالغدر قائلاً: (وا غدراه)، فاجتمع الصحابة يقرعونه ويقولون: (قاتلك الله أيغدر رسول الله؟)، أما النبي فكان سحابة حلم.. كان عليه السلام غاية في الإذعان لحكم الله الذي أنزل عليه وطالب أمته بالإذعان له، لكن المدهش أنه لم يجلده.. لم يحبسه.. لم يتفوه بكلمة نظير تلك الكلمة -الجريمة، بل بعث لامرأة كريمة تدعى (خويلة بنت حكيم) لتنقذه من سلاطة هذا الخصم الوقح بسلفة، ففعلت رضي الله عنها، أما أصحابه الغاضبون فالتفت إليهم ملهماً وقائلاً: (دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً –أحمد بسند قوي ) صلى عليه الله ما أروعه.. أجل لصاحب الحق مقالاً ولو على نبي، وهل هناك أعظم وأصدق وأعدل وأنبل من نبي؟ قالها واضعاً الحجر الأساس لاستقلال القضاء.. قالها كقاض بحق نفسه كحاكم، وبحق نفسه كخصم. استقلال القضاء وحي سماوي، أما آلية تنفيذه فمشرعة للإبداع والاجتهاد البشري.