أحمد بن راشد بن سعيّد - الحياة اللندنية حدَّث سهمُ بن كنانة قال: ساقني سائقُ الاضطرارْ، إلى السفر خارج الديارْ، فتجولتُ في الأسواقْ، واختلفتُ إلى الإسكافيِّ والورَّاقْ، وقصدتُ الحمَّاماتِ والمدارسْ، وغشَيْتُ المارستاناتِ والمجالسْ، ورتعتُ في رياض الذكرْ، وقطفتُ من ثمار الفكرْ، ولمْ أتركْ خاناً إلا حللتُه، ولا ماءً إلا وردتُه، ولا دابةً إلا ركبتُها، ولا ربوةً إلا علوتُها، وشهدتُ إقبالاً على المبارزة، وشغفاً بالمناجزة، ورواجاً للمصارعة، وغراماً بالمطالعة، بل حضرتُ أصبوحاتٍ مقامية، وأمسياتٍ شعرية، ومناظراتٍ فقهية، ومنافساتٍ خطابية، الأمرُ الذي فتنني بالشعرْ، وزاد إيماني بأنَّ البيانَ سحرْ، ومكثتُ في تلك البلدة، ما شاء الله لي من المدة، وبينا أنا ذات يومٍ في متجرٍ اسمُه رنده، يباعُ كلُّ شيء-فيما زعموا- عنده، إذا رجلٌ تبدو عليه الوسامة، وقد أسدل على الشفتين لثامَه، ووضع لامتَه وتقلد حسامَه، وإذا هو يشتكي آلامَه، ويندبُ أقسامَه، وقد تجمهرَ المتسوقون حوله، ينظرون إليه ويستمعون قوله، وكان مما قال: لا يغرَّنكم اصفرارُ وجنتي، وامتقاعُ سُحنتي، وانطفاءُ غضارتي، وما يبدو من حقارتي، ولا يرُعْكم ما في صوتي من بحة، ولا ما في صدري من كحة، ولا ما في وجهي من ندبة، ولا ما في ظهري من حدبة، وحذار أن يخامرَكم الريبْ، لو رأيتُم في مفرقي الشيبْ، فتظنوا أني شيخٌ كبيرْ، نيَّفَ على الستين بكثيرْ، قسماً بالذي حبَّبَ إليكم السوقْ، وكرَّه إليكم الفسوقْ، وملأ جيوبَكم بالدراهمْ، فمنكم راضٍ ومنكم ناقمْ، وساقكم إلى هذا الموضعْ، من أجل التسلية والتبضعْ، إنني ما زلتُ في ميْعة شبابي، ولا أدلَّ على ذلك من روعة خطابي، بل ما زال ينبضُ في داخلي قلبُ طفلْ، فليس لي على وجه الأرض مثلْ، يستهويني الجمالْ، ويتصبَّاني الدَّلالْ، أذرعُ المروجْ، وأركبُ السُّروجْ، وأستسلمُ للوجه الحسنْ، كما يستسلمُ المُنهكُ لإغراء الوَسَنْ، وأقعُ في أحضان الهوى، كما تقعُ على الأرض حباتُ النوى، وأحنُّ لليلاتِ الوصالْ، حتى تتكسرَ النصالُ على النصالْ، ومازلتُ رغم ما ترون طريَّ العودْ، وربما داعبتْ أناملي أوتارَ العودْ، بل لا أكتُمُكم سراً أنني ربما استمعتُ إلى فيروزْ، وإن كان ذلك في عُرف الفقهاء لا يجوزْ، وشاهدتُ كليبسْ نانسي عجرمْ، ما ضلَّ من عَشِقَ تلك القيْنة وما أجرمْ، واستمتعتُ بموال نجوى كرمْ، وصوتِها الجبليِّ الذي يعانقُ الهَرَمْ، كمْ فيلماً شاهدتُ لتوم هانكسْ، استحق مني ألفَ ثانكس، وكم مشهداً لإنجيلينا جولي، طيَّرَ بناتي وشتَّتَ فلولي، وكم عرضاً لكلوديا شيفرْ، جعلني ذاهلاً أمام (الرسيفرْ)، أجل يا قوم، ذلكم هو فؤادي الأخضرْ، يتوقُ إلى الأبهى والأنضرْ، ومازلتُ أردِّدُ مع ابن رشيقْ، بلسانٍ حلوٍ رشيقْ، يا ليلُ الصبُّ متى غدُهُ، أقيامُ الساعةِ موعدُه، ووالله ما زاد الشيبُ وجهي إلا تورُّدا، وقلبي إلا تودُّدا، وما زاد همتي إلا شموخا، وحكمتي إلا رسوخا، وإنني على ما أغشى من لمَمْ، لا أظلمُ أحداً فالظلمُ ظُلَمْ، وأحبُّ صنائعَ المعروفْ، وأقضي حوائجَ الملهوفْ، وأقاسمُ الصحبَ أنخابَ القصيدْ، وذلكم لعمرُ الله خيرُ رصيدْ، ولما بلغ الرجلُ هذا الحد سأله أحدُ المتسوقين: هاتِ الزبدة واللبابْ، وأمطْ عن مرادك النقابْ، فقال: والله ما سألتُكم من أجرْ، ولكنَّ النِّعمَ تزيدُ بالشكرْ، وأنتم وإن كنتم في الدنيا تُسابقونْ، إلا أنكم في الخيرات تُسارعونْ، وإن مما يُسَرِّي عن النفسْ، ويُضفي الجلالَ على الحسْ، حلولُ اليسر بعد العسرْ، برحمة من يجيبُ المضطرْ، ويكشفُ الضرْ، ولا يعجزُه في الكون شيْ، سبحانه من قيومٍ حيْ، وهنا هتف متسوقٌ آخر: سألك الرجلُ عن الزبدة، لا عن الفرج بعد الشدة، ابتسم الرجلُ بخبث، ثم قال: هل تقصد لورباكْ، إت إزْ إنْ مايْ باكْ، لله درُّ من رباكْ، وأشار خلفه إلى أنواع الزبدة، فانتابت القومَ من سخريته رِعْدة، وقال بعضهم: لا ريب أنه محتالْ، وهمهم آخرون: بل هو المسيحُ الدجالْ، ولما شعر الرجلُ بضياع بختِه، وأن البساط سُحِبَ من تحتِه، قال: تعلمون ما جاء في فضل اللينْ، والإحسانِ إلى المؤمنينْ، كما لا يخفاكم فسادُ الزمانْ، وضَياعُ الأمانْ، وتنكُّرُ الأصحابْ، وتطاولُ الأعرابْ، وتقلُّبُ الدنيا بأهلِها، رغم تمرغِّهم في وحلِها، وإني منيخٌ راحلتي بداركم، داعياً المولى أن ينسأ في آثاركم، ومعلقٌ أملي بأخلاقكم، راجياً المولى أن يبسط في أرزاقكم، وأن يُعليَ شأن أسواقكم، حتى لا تكونَ أعناقٌ أطولَ من أعناقكم. قال سهم بن كنانة: وعندئذٍ لمْ أتمالكْ نفسي، فاقتربتُ منه، وحسرتُ عنه اللثام، فإذا هو العزاز أبو نصر، فوبختُه على فعله، وكدتُ أصفعُه بنعله، فبكى أو تباكى، وأخرج من جيبه سواكا، وقال: هديةٌ يا سهمْ، وأنتَ أخو الفهمْ، وقديماً مدحوا ستر العيبْ، لا سيما للمسلم ذي الشيبْ، فنهرتُه ورميتُه بالسواكْ، وقلتُ له: حسبُك من سوَّاكْ، لن أفضحَ أمرَكْ، ولن أهتكَ سترَكْ، ولكن أقلعْ عن احتيالك، قبل أن يوردَك المهالكْ، ودفعتُ له بعض النقودْ، والناس حوله قيامٌ وقعودْ، وبعدها قررتُ الرحيل عن ذلك المصرْ، متألماً من فعل أبي نصر، غير أني حملت من الذكريات ما يداعب الأوتار، وتطيب به ليالي الأسمار.