عبد العزيز السماري - الجزيرة السعودية تتفق المرجعيات الدينية والإنسانية على أن استقلال القضاء والمساواة تحت مظلة القانون يجسدان الحياة الكريمة للمواطن، ويُعدّان السبيل الأهم لتحقيق العدالة في المجتمعات الحديثة. ولا شك أن هناك خطوات حثيثة في طريق تطوير القضاء السعودي بدءاً من إقرار نظام المرافعات الشرعية، وانتهاءً بمراحل تخصص القضاة في الجزائية والتجارية والعمالية. والرجاء أن يستمر تخصص القضاء في مختلف مجالات الحياة، ولعل أهمها مجال القضاء الطبي؛ فالأخطاء الطبية وقضايا شرف المهنة تستدعي وجود قضاء ذي خلفية طبية.. لكن المعضلة التي تواجه القضاء السعودي هي تطور الجريمة؛ فما يحدث في عالم اليوم من تطور متسارع في الجرائم الفردية والمنظمة يدعو إلى مراجعة فقهية شاملة؛ فالمصطلحات الحالية لم تتجاوز بعد القرون الوسطى، وتتطلب تجديداً واجتهاداً في تعريفها وعقوباتها، وأكاد أجزم بأن النوايا الحسنة والكفاءات الحالية قادرة على نقل القضاء السعودي إلى مراحل أكثر تطوراً.. تأتي قوى الجريمة المنظمة بوصفها أحد أهم التحديات أمام القضاء، وفي مقدمتها الجماعات المنظمة التي تخل بأمن المواطن من خلال العنف، أو عبر استحلال موارده الاقتصادية، ويدخل في ذلك أيضاً قضايا الاحتكار الاقتصادي واستغلال النفوذ في الكسب المادي، ومنها ظواهر النفوذ الاقتصادي العابرة للقارات وضررها البالغ على المواطن، وهل يستطيع التدخل لإبطال الاحتكار ومنح الجميع فرصاً متساوية في الاستثمار؟.. وهل يستطيع القضاء إيقاف بعض أنظمة الاستثمار التي فتحت الباب على مصراعيه للأجانب لاستقدام عمالتهم من بلادهم الأصلية، التي قد تُعتبر من جرائم العنصرية ضد توظيف المواطنين في بلادهم، وما يحدث لدينا يُعتبر في بعض دول الغرب جريمة يعاقب عليها النظام؛ إذ لا يمكن أن تستمر عمليات إحلال الأجانب في وظائف مواطنين.. بمعنى آخر أن يكون القضاء طريقاً لحماية مصالح المواطنين من أهواء النفوذ التي تدخل ضمن عنفوان طبائع الإنسان وغرائزه في ميله غير المشروع للكسب المادي اللامحدود ورغبته في السيطرة.. في جانب آخر فتحت قضايا المرأة والأطفال آفاقاً واسعة للوعي الجديد؛ ففي السابق كان المجتمع يتقبل ظلم المرأة ويُدخله في باب الطاعة العمياء للزوج، لكن العصر الحديث أدخل مصطلحات جديدة إلى عالم الجريمة الحديثة، ومنها زواج القاصرات، الذي يُعدّ جريمة تستحق العقاب، لكن الخلاف ما زال في تحديد سقف عمر الطفولة فهل سن 14 أو 18 سنة كما هو الحال في بقية دول العالم المتقدم؟ وأيضاً قضاياً التحرش الجنسي وضرب الزوجات والأطفال، الذي يستحق الاهتمام كثيراً من وزارة العدل.. ويستوجب العمل سريعاً على إقرار أبواب في هذا الشأن الإنساني المهم.. أيضاً في ظل تطور الأجواء التنافسية في المجتمع تتطور وسائل العنف داخل أماكن العمل، وقد تدخل في أنماط سلبية هدفها تدمير الشخصيات المنافسة، من خلال التشهير وإساءة السمعة، ويصل ذلك إلى حروب المنتجات الاقتصادية؛ فنشر الأخبار المغلوطة عن البضائع المنافسة لهدف تدمير منتج لصالح آخر يُعتبر جريمة تستحق العقاب، ويدخل ذلك في عالم الجريمة المنظمة، ولا يمكن تجاوز ما يحدث في البنوك من تضليل واستغلال عاطفة المسلمين في بيع المنتجات الاقتصادية بأسعار تكاد تفوق معدلات الأسعار في البنوك الربوية.. خلاصة الأمر أن القضاء السعودي يخطو إلى الأمام من خلال إعادة هيكلته وإدخال مفاهيم التخصص فيه، لكن لا يزال يحتاج إلى قفزات هائلة في تدوين تشريعاته وتحديدها؛ فالتطور الهائل في عالم الجريمة يحتاج إلى مواكبة في تطوير القوانين والتشريعات المضادة، وقد يحتاج الأمر إلى تجديد سنوي في التشريعات وفي تعريف المستجد من الجرائم.. ففي اتساع الفجوة بين التشريعات وتطور الجرائم آثار في غاية السلبية على أمن الوطن ومستقبله. لم تعد الجرائم في الوقت الحاضر بتلك الصورة النمطية القديمة، ولكن تطورت بذكاء خارق وصل إلى سرقة المعلومات وإلى حد جرائم القتل المعنوي، ويتطلب الأمر جهوداً خارقة من أجل جعل القضاء السعودي في مرحلة أكثر ملاءمة لمواجهة تعقيدات الجريمة في العصر الحديث.