سوف يكتشف من يطل على مشهد الحراك في مجتمعنا، أن معظم المتحاورين فيه ينطلقون من دائرة مشتركة. ولكن سوف يكتشف أيضاً أنهم بكل أسف يخرجون منها متحاربين ليس بسبب الدائرة التي تجمعهم ولكن بسبب الصراع على اختيار وسائل العيش فيها. لذلك لم يعد مهماً الآن أن نكتشف تحول الحوار إلى خصام وشتم ترتفع فيه الأصوات ويسود فيه الصراخ، ولكن من المهم أن ندرك خطورة أن يغيب العقل في هذا الحراك. عندئذ يحل (العناد) فيما بينهم وسوف يتحول الاختلاف إلى قضية تمسك بالرأي على حساب المبدأ ولن يهتم أحد بما يسببه من أضرار. من أجل ذلك لابد أن يلتفت العقلاء إلى الأصوات الهادئة التي تطالب بسد الفجوات بين المتخاصمين قبل أن يستشري بينهم العداء وتتقطع بينهم طرق العودة. ذلك أنه من غير المعقول أن يغمض العقلاء أعينهم عما يدورفي الساحة ويتركوها تغلي. ومن غير المعقول أن يتغيبوا كل هذا الوقت وهم يرون ادعاء كل طرف أنه يملك كل الحقيقة والوسيلة، ولا يقولون لجميع الأطراف أين تكمن الحقيقة. لذلك فإن الساحة اليوم لهي أحوج ما تكون إلى حكمة العقلاء من أي وقت مضى. إنه مطلب وطني أن يتولى العقلاء إعادة مسارات الصراع وتحويله إلى حوارات حول ملفات المشاكل الحقيقية التي تواجه مجتمعنا بدلاً من الانشغال في الجدل البيزنطي حول فروع الفروع. فليس سراً أننا نشكو من تنامي ظواهر مرضية إن تركناها في أيدي المتلاعبين بها، فسوف تنهش في بنية وحدتنا وتآلفنا. تكفي الإشارة إلى واحدة منها فقط لندرك أنفسنا قبل أن يستفحل بنا الخطر، وهي مشاعر العنصرية التي أخذت تتصاعد بين أطراف ضد أطراف أخرى. فقد تزايد التعبير عنها بصورة مقيتة بدءاً من المقالات الخجولة إلى التصريح العلني عنها في شتى وسائل الإعلام حتى بدأت تترك آثارها في العمل وفي النادي وهي مازالت تشق طريقها إلى مجالات أخرى ونحن عنها غافلون. علينا في البداية أن نهيئ الأرضية للجمع بين جميع الفرقاء من خلال ثلاث أولويات مهمة: أولاها، أن يطمئن الجميع أن أي مشروع للتطوير لابد أن يبدأ من الدين. والثانية، أن يسود حسن الظن بكل صاحب رأي وبالتالي نساعد على سحب سوء الظن من بالونة الاحتقان ومن ثم تتولد الثقة من جديد. والثالثة، لابد أن نرسم لأنفسنا رسالة واضحة نلتزم برعايتها وتسليمها للأجيال التي تأتي بعدنا وهي: ليس لدينا إلا هذا الوطن. وطننا الذي نعيش فيه جميعاً بتنوع لكننا متضامنون في استمراره. إننا إن لم نفعل بهذه الأولويات، فسوف تتداعى أسباب أخرى من التفكك وعندئذ لن يقدر مجتمعنا على مقاومة الأخطار.