«ما لم تتخذ أميركا موقفاً حاسماً من الحدث السوري فلن يحصل أي تحول نوعي»: عبارة تتكرر عند البعض في معرض الجدل حول العامل الخارجي المؤثر في مسار الثورة السورية واتجاهات تطورها، مستندين إلى تجارب مقاربة، وإلى ما تملكه الولاياتالمتحدة، من قوة نافذة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، تضعها في موقع اللاعب الأول وأحياناً المقرر لمصير الكثير من الصراعات الوطنية والأزمات الإقليمية. لكن، إلى اليوم لا يبدو أن الوقت قد حان لتقول واشنطن كلمتها الحاسمة في الشأن السوري، وهو ما كشفت عنه سياستها طيلة عام ونصف من عمر الثورة، وما توجته تصريحات كلينتون في زيارتها الأخيرة تركيا والتي دارت في فلك الموقف القديم ذاته، المفعم بالتردد والإحجام عن التدخل الفاعل في الصراع السوري وتكرار الذرائع نفسها، كأولوية العمل من خلال مؤسسات المجتمع الدولي واحترام قراراتها ودعم خططها ومبادراتها، أو التحجج بتفكك العمل المعارض وتشتت رؤيته السياسية، ثم الخشية من بديل آتٍ يهدد حقوق الأقليات، أو المبالغة بخطر تسلل جماعات القاعدة إلى بلاد الشام وسعيها لقطف ثمار الحراك الشعبي، ولا يغير من هذه الحقيقة تصاعد حدة هجومها على الفيتو الروسي، ولا الإدانات الحادة للعنف المفرط وتكرار المطالبات برحيل النظام، ولا تشديد العقوبات الاقتصادية والديبلوماسية ضد أهم الشخصيات السلطوية وضد بعض حلفائهم، ووضع ثقلها وراء محاسبتهم على ما ارتكبوه، ولا الدعم اللفظي للشعب السوري والتغني بشجاعته والوعود بتقديم أشكال من المساندة لثورته وتمكينها من تحقيق طموحها في نيل الحرية. وراء ما يصح تسميته بنهج خاص للسياسة الأميركية في التعاطي مع الحالة السورية، جوهره ترك الصراع مفتوحاً وعدم استعجال الحسم، ثمة قطبة مخفية تحيكها أسباب عدة. يصيب من يرى الأمر من قناة اختلاف ترتيب الأولويات لدى الإدارة الأميركية وفق حسابات تتعلق بالرأي العام الذي ذاق مرارة الثمار في العراق وأفغانستان، وانقلب مزاجه ضد تفعيل الدور الخارجي لبلاده ومنحه الأولوية على حساب المشكلات الداخلية، وراهناً لغايات انتخابية، وكي يضمن أوباما دخولاً آمناً إلى التجديد من دون التباسات قد يجرها التصعيد في الشرق الأوسط، والواضح أن إدارة البيت الأبيض تعمل اليوم على تمرير الوقت والمهل لطي صفحة الانتخابات بهدوء، والبحث عن اللحظة الأنسب للتدخل الفاعل في سورية، من دون أن تعير انتباهاً للحملة المضادة التي يشنها ميت رومني ضد أوباما بإظهاره عاجزاً أخلاقياً عن التعامل مع ما يخلفه عنف السلطة السورية من مآسٍ وآلام. والحال أن موسم الانتخابات الأميركية مع وجود الرئيس كمنافس للحصول على ولاية ثانية يشكل ضغطاً عليه كي يتجنب أي مغامرة أو منزلق، وكي يغازل مزاج الشعب الأميركي الذي يبدو أنه غير معني بأحداث لا تمسه مباشرة، خصوصاً بعد تجارب سابقة دفع ثمنها من تنميته وعافية اقتصاده! وأيضاً يصيب من يرجع الأمر إلى خصوصية سورية وارتباطاتها الإقليمية والعالمية وخشية واشنطن من أن يتحول تدخلها المباشر والحاسم إلى ورطة تكبدها المزيد من الخسائر خصوصاً إن تشابكت الأوضاع وتدخلت أطراف مختلفة وطال الصراع، بل الأجدى لها مد زمن الثورة السورية وتأخير المعالجة الجذرية، لاستنزاف خصومها، روسيا وإيران، لأطول مدة ممكنة، وإنهاكهما مادياً وسياسياً وتشويه سمعتهما أمام الشعوب العربية على حساب تحسين صورتها، التي وصلت إلى حد الاحتراق إبان اجتياحها العراق. ليصح القول إن واشنطن تستطيع ربما تحمل مشاهد القمع والتنكيل مهما اشتدت لكنها لا تستطيع تحمل تكاليف التدخل الناجع، في قراءة للمسألة من زاوية النتائج والتكلفة وما يترتب على ذلك من خسائر مادية يصعب تعويضها من بلد فقير بثرواته كسورية. ثم لا يخطئ من يعتبر النهج استجابة خفية للرؤية الإسرائيلية التي لا تحبّذ وصول سلطة جديدة إلى الحكم في سورية بدلاً عن سلطة خبرتها جيداً ووفت بوعدها طيلة عقود بإبقاء جبهة الجولان مستقرة، وفي حال تعذر ذلك، فقد رشح أن الأجدى عند قادة تل أبيب ترك الصراع يستنزف أطرافه، حتى تصل البلاد إلى حالة من التعفن والاهتراء ويغدو المجتمع ضعيفاً ومفككاً فيأمنون جانبه لسنوات عدة. والمغزى هو قوة كلمة إسرائيل وتأثيرها في مواقف الغرب، وعلى اتجاهات الرأي العام هناك، فلا يمكن القفز مثلاً على طلب إيهود باراك الفاقع والمثير من الحكومة الأميركية بتخفيف الضغط على النظام السوري وتركه لشأنه، بل لا بد أن يؤخذ بقوة في الحسبان مع اقتراب موعد الانتخابات! وربما لا يجانب الصواب من ينظر إلى الأمر من قناة تآمرية ويربطه، مرة برؤية أمنية أميركية ترجح تحول الساحة السورية إلى بؤرة جاذبة للقوى الإسلامية المتطرفة وبالأخص للقاعدة، ما يوفر فرصة لتوجيه ضربة قوية لهذا التنظيم بسلاح النظام السوري ذاته ما يحد من قدرته على النمو والتجدد، خصوصاً أنه لا يزال العدو الرقم واحد لدى واشنطن. ومرة بموقف استراتيجي، يندر الحديث عنه، حول وجود مصلحة أميركية خفية في بقاء محور «الممانعة والمقاومة» وإن ضعيفاً، كبعبع في مواجهة المحور العربي، لتطويع هذا الأخير وضمان استمرار حاجته لها، والدليل هو المفارقة بين سلبية أميركية مخجلة تجاه الحالة السورية مع أن نظامها هو الأشد عداءً لسياستها، وبين مسارعتها للتدخل الحاسم في بلدان كانت أنظمتها حليفة! ربما هو حظها العاثر أن تواجه الثورة السورية أعتى وسائل الفتك والدمار وحيدة، وأن يكون بلدها إلى جوار إسرائيل ويرتهن لأمنها الاستراتيجي، أو تضطر للانتظار ريثما يمر زمن الانتخابات الأميركية كي تختبر مدى جدية واشنطن، أو يكون رهانها على تعاطف الشعوب الأخلاقي معها لقاء الأثمان الباهظة من الضحايا والجرحى والمعتقلين، لإحراج السياسات الرسمية ودفعها لاجتراح مخرج عاجل لما يحصل. * كاتب سوري