ما الذي يضيرنا من الكتابة في العلم التجريبي، ما الذي يجعلنا لا نناقش سر فشله في عالمنا العربي، أليس هو الذي نهض بالغرب وأوصلهم إلى ما هم فيه.. اسألوا بناتكم وأبناءكم كم مرة أجروا تجربة كيميائية أو فيزيائية.. كم مرة أخذوا درسا لمسوه بأيديهم واشتركت فيه كل حواسهم.. تقول ابنتي التي تخرجت من القسم العلمي: لم نجر أكثر من خمس عشرة تجربة خلال ثلاث سنوات، أي أن نصيب التجربة هو 15 حصة من حوالي 1000 حصة علمية، بينما يقول بعض الطلبة في المرحلة المتوسطة أنهم لم يجروا أكثر من تجربتين خلال المرحلة المتوسطة. لقد أبدعنا في تحويل كل العلوم إلى إنشاء.. صرنا نرفض التجربة.. حتى الإعجاز العلمي الذي يقوم عليه فلكيون وأطباء وجيولوجيون وكيميائيون وفيزيائيون غربيون بارزون حاربناه .. تأملوا أعداء الإعجاز العلمي لن تجد بينهم عالماً تجريبياً.. كل أعدائه إنشائيون كارهون للإبداع، عاشقون للاستهلاك.. أصبحنا نتشرب ثقافة الإنشاء.. جوائزنا كلها للإنشاء: شاعر المليون... شاعر الأمة.. إلخ. سألت أحد الدكاترة من دولة عربية كبرى عن إحصائية تقول إن قرابة العشرة آلاف طبيب يهربون من بلاده سنوياً، فصدمني بإجابته عندما قال: هل تعلم أن لدينا كليات طب تدرس طلبتها من خلال الكتب والصور فقط، لأنها لا تستطيع تأمين أكثر من ذلك! بل عندما علمت وزارة المعارف في تلك الدولة العربية الكبرى أن طفلا في المرحلة الابتدائية صنف على أنه من أذكى أطفال العالم، أرادت أن تكرمه بنقله إلى المرحلة المتوسطة (مسألة زمن لا إبداع) بينما عرضت (كندا) على والده الطبيب التكفل به وبأسرته ماديا، بشرط أن يتخلى عن جنسيته العربية، وينخرط في معامل كندا ومختبراتها الحديثة. النهضويون والتنويريون والحداثيون العرب كلهم إنشائيون.. ليس بينهم من قدم نظرية علمية.. ليس بينهم مخترع.. حتى من درس منهم في كلية علمية لم يستطع توظيف تخصصه لدعم حداثته أو تنويره، لذا هرب للإنشاء.. هؤلاء أعادونا وما زالوا إلى ثقافة الأسواق الجاهلية مجنة وذي المجاز، بل إن تلك الأسواق كانت أكثر تقدمية من أسواقنا التنويرية، فقد كانت للأدب والاقتصاد.... ونحن أقمناها للأدب وحذفنا الاقتصاد، وعندما جاء الإسلام لم يحرم تلك الأسواق، ولا يوجد نص واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بمنعها، كل الذي فعله هو الانشغال بالأهم.. خاطبهم القرآن في عقولهم وأرواحهم وأجسادهم.. نظمهم وثقفهم اجتماعياً وتربوياً وسياسياً واجتماعياً وقانونيا واقتصادياً فانشغلوا بالمهم عن التافه. لا أدري كيف ننهض ومدارسنا بلا مختبرات؟ لا أدري كيف ننهض والكتاب العلمي لا يستطيع الطالب فهمه، ولا المعلم إيصاله؟ ما هذا الكتاب الذي لا يستطيع إيصاله إلا معلم الدروس الخصوصية؟ هل معلمو الدروس الخصوصية مختبرات متنقلة، أم عباقرة غفلت عنهم الدول الصناعية.. أم هو الارتجال في صياغة الكتاب والإبداع في تعقيده؟ (وحول الارتجال في تأليف كتب أبنائنا قصة مضحكة مبكية أتركها لمقال قادم إن شاء الله). إنني أعتقد أنه لو انشغل كتابنا ومثقفونا بنقد كتب العلوم التجريبية، ومخرجات العلوم التجريبية وطريقة التعاطي معها، لقدموا إضافة تقنعنا بالتنازل لها عن كثير من الحصص النظرية، لكن أن نحول المواد التجريبية إلى مواد نظرية، أي إلى مواد حفظ وتلقين أخرى، ثم نطالب بزيادة حصصها، فهذا يعني أننا نمارس حقن طلبتنا بالكراهية ضد العلم الحديث، ونمارس وأد الاكتشاف والإبداع والاختراع في نفوسهم.