استفزني كثيراً تصريح لمسؤول ديني في دولة عربية مغاربية قال فيه بحماسة زائدة عن الحد وحكمة مصطنعة أن الخطاب الدعوي ينبغي أن يكون داعماً للمصالح القومية وخطط التنمية في المجتمع، ثم أضاف الرجل موضحاً نماذج لهذه الخطط فقال: مثل تنظيم الأسرة وتطوير الأحكام المتعلقة بها، ومثل هذا الخطاب تردّد في أماكن أخرى من العالم العربي من قبل مفكرين وكتّاب ينتسبون إلى الحداثة أو إلى الفكر المستنير حسب التصنيفات الفضفاضة الجديدة، وأصحاب هذا الخطاب لا ينظرون إلى "الإنسان" إلاّ على أنه بلوى ومصيبة وعبء زائد عن الحاجة، لا يعرفون كيف يتخلصون منه أو يحملون احتياجاته، وليس على أنه طاقة للعمل والإنتاج والتطوير والنهوض، وهذا مفتاح المشكلة الأساس، والذي بدونه لا يمكن إدارك وجه الخطأ والخطيئة أيضاً، لأنه لا يكون الإنسان طاقة لهذا النهوض إلاّ وفق خطط تنمية جسور، وعمل مؤسسي يتميز بالشفافية والنزاهة والاستقامة، وبيئة إدارية لا تعرف الفساد والنهب العام. فبدلاً من توجيه النصيحة والمعالجة لجوهر المشكلات التنموية، يستسهل البعض استخدام "الدعوة الإسلامية" كمطية يمتطيها لتمرير أي مشروعات غير جادّة، أو شمّاعة "مشجباً" يعلقون عليها كل سوءات الإدارة والتخطيط، والحقيقة أن الكثير من تلك الرؤى والأفكار هي في الغالب تصوّرات أجنبية ورؤى لمؤسسات دولية لها تقديراتها للمصالح والمستقبل الذي لا يمثل فيه العالم الإسلامي أي أولوية، بقدر ما هم يخططون لمصالحهم هم، وما يحقق مستقبلاً أفضل لبلادهم. يزعجني كثيراً اشتعال أُوار أفكار وخطط فجأة في أكثر من بلد عربي من المحيط إلى الخليج بتنسيق وتوافق مذهل، مثلما هو الحال في الحديث عن مسائل تنظيم الأسرة المقترحة، أو التي تم فرضها بالفعل في بعض البلدان، وهي موجهة بالكامل ضد كل نمط التشريع الإسلامي المستقر في تاريخ الإسلام منذ البعثة إلى اليوم؛ فهناك ازدراء لأحكام الميراث، وهناك ازدراء لأحكام تعدّد الزوجات، وهناك ازدراء لأحكام الطلاق ومشروعيّته، وهناك ازدراء لأحكام القوامة الشرعية في إدارة الأسرة، إلى غير ذلك من محاور، وبعيداً عن التلاعب المرضي باختلاف الاجتهادات بين المذاهب ولعبة القص واللصق من هنا وهناك لكي تخرج ببلوى جديدة تختلف فيها مع الجميع، ولا يكون لك فيها نسب من شريعة أو خلق علمي، بعيداً عن هذه الألاعيب، فالمسألة كلها تدور في إطار "البحث" عن صيغة أو مخرج لتطويع التشريع الإسلامي بما يتوافق مع الأفكار الغربيةالجديدة، ومقرّرات المؤتمرات الدولية المشبوهة، والتي تمثل خطراً على فطرة الإنسان ذاته، قبل أي دين أو مذهب. وعندما يلجأ البعض إلى استخدام الدعوة كمحلّل لتلك الخطط والرؤى والمشروعات، بكسوتها بكساء شرعي ولو مزيّف، فإنه يمارس خيانة للأمانة الدينية، قبل أن يمارس خيانة اجتماعية أو إنسانية. إن الدعوة وخطابها هي ميراث النبوة، وهي ميثاق الله للدعاة وأهل العلم (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)، فلا ينبغي أبداً السماح لأحد كائناً من كان أن يحول الخطاب الدعوي إلى مجرد "مطيّة" يمتطيها كل ذي هوى أو غرض لكي يمرّر هواه أو غرضه، أو يمسح بها سوءاته، فضلاً عن توظيف الخطاب الدعوي بصورة تنتهي به إلى أن يكون أداة ضد التنمية الحقيقية؛ لأن عصب هذه التنمية يكون في تحقيق التوازن بين القيم الدينية المستقرة في ضمير المجتمع وبين حاجات النهضة التقنية والاقتصادية والإدارية والسياسية. العبقرية هي أن تستفيد من هذه القيم بتفعليها وتحويلها إلى طاقة فعل ومحرك طموح لإنهاض الأمة ووصولها إلى آفاق المجد والعلياء، لا أن توقع الاضطراب بين الضمير الديني المستقر وبين السياسات التي تحكم المجتمع، أو تدفع المجتمع للمضيّ في خطط غريبة عليه بوهم أنها تنهض به، في حين يشعر في كل خطوة بالإثم والقلق والحيرة وعدم الاطمئنان، لمجافاة هذه الخطط لما يستشعره في ضميره من قيم وأحكام وعقائد راسخة، إنه ليس من الأمانة ولا الخلق أن نهين الدعوة إلى الله، وأن نقدمها في صورة دفتر الشيكات الذي تم توقيعه على بياض؛ لأن مثل هذه الأطروحات تؤدي إلى إضاعة "هيبة" الدعوة والدعاة إلى الله، وتضعف من تأثيرهم المهم في المجتمع، وتجعل المجتمع يخسر مصدّات رياح ومحاضن للاستقامة والصلاح والاعتدال، نحن أحوج ما نكون إليها في هذه الأيام.