د.يوسف بن أحمد القاسم - الاقتصادية السعودية حين وطئت قدم النبي صلى الله عليه وسلم مشارف المدينةالمنورة في هجرته الشريفة إليها, بنى مسجد قباء ليكون أول وقف في الإسلام, ثم وضع صلى الله عليه وسلم تشريعا عاما للوقف بقوله الشريف: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية..) والصدقة الجارية هي الوقف, فينقطع عمر ابن آدم, ولا ينقطع عمله الصالح, فيستثمر بعد وفاته وهو في قبره بالصدقة الجارية؛ ليجري له عمله الصالح بعد وفاته, كما كان يجري حال حياته, وحين أصاب عمر أرضا بخيبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها, فقال: يا رسول الله, إني أصبت أرضا بخيبر, لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه, فما تأمرني به؟ قال: (إن شئت حبست أصلها, وتصدقت بها) فتصدق بها عمر, غير أنه لا يباع أصلها, ولا يبتاع, ولا يورث, ولا يوهب. فتصدق عمر في الفقراء, وفي القربى, وفي الرقاب, وفي سبيل الله, وابن السبيل, والضيف. والقصة في صحيح مسلم. فكان قوله عليه الصلاة والسلام: (إن شئت حبست أصلها, وتصدقت بها) تعريفاً جامعاً للوقف, وصيغة ترسم معالمه, بكونه تحبيساً للأصل, وتسبيلاً للثمرة أو الغلة. ونلاحظ هنا: أن عمر لم يستهدف بالوقف المال الرديء, وإنما استهدف به أفضل وأنفس مال عنده, وهذا يدل على بعد نظره, وعمق إيمانه, حيث استثمر أفضل المال في الآخرة الباقية, لا في الدنيا الفانية, عكس ما يفعله بعض تجار اليوم. ولم يكن الوقف حكراً على المسلمين, فقد كان معروفاً قبل الإسلام, ولهذا وجد في بعض الحضارات القديمة ما يدل على فكرة الوقف, ولكن بأساليب مختلفة, فمنها ما تكون وسيلة للكنيسة للسيطرة على أموال الناس لصالح المعابد والكهنة, ومن الأوقاف ما تكون لصالح الورثة أو بعضهم, حيث لا يوجد تنظيم للإرث في بعض الديانات أو أغلبها, فيضطرون لوقف أموالهم لمن شاءوا من الورثة, وأحياناً بأسلوب الوصية, ومن الأوقاف ما تكون وسيلة للتهرب من الضرائب, لاسيما أن الوقف لديهم له طبيعة خاصة, أما الإسلام, فقد جاء تشريع الوقف؛ ليكون رافداً إضافياً من روافد بذل المال, بطبيعة خاصة, فمصارف المال في الإسلام على أنحاء: فمنه الصدقة الواجبة, وهي الزكاة, ومصارفها محددة. ومنه الصدقة المستحبة المنقطعة, وهي صدقة النفل, ومصارفها مفتوحة في كل مجالات الخير. ومنه الصدقة المستحبة المؤبدة, وهي الوقف, ومصارفه مفتوحة في كل مجالات الخير. وهذه كلها حال الحياة. ومنه الصدقة المستحبة بعد الوفاة, وهي الوصية... إلخ. وهذا يدل على تنظيم الإسلام لأسلوب البذل والعطاء, وتنويعه لطرق الإنفاق, ومن هنا فإن النظام الأمريكي, أو الإنجلو أمريكي, والمعروف ب ""الترست"" ما هو إلا خليط لنظام الصدقة والوقف, وهو وإن كان يتسم بتقنينه حديثاً - وهو ما ينبغي أن تكون عليه نظمنا المالية حاليا - إلا أنه أعطى الوقف خاصية الصدقة, وأعطى الصدقة خاصية الوقف, وهذا خلط غير مقبول في التشريع الإسلامي, وإن حاول البعض إعطاءه الصبغة الفقهية عبر مفهوم الإرصاد في الفقه الحنفي, فهو تكلف غير مقبول. كما أنه من غير المقبول أيضاً تضييق دائرة البذل بفتاوى تضيِّق الخناق على المصارف السبعة في الزكاة من خلال توسيع مفهوم مصرف ""في سبيل الله"", أو بفتاوى تخنق مصارف الصدقة والوقف المستحب من خلال توسيع مفهوم الزكاة ليشمل الأوقاف, وهكذا. والمؤسف أننا نشهد تراجعاً لسنة الوقف في معقل بلاد الإسلام, في الوقت الذي نشهد فيه إقبالاً وحضوراً لفكرة الوقف عند غير المسلمين..! علماً بأن الوقف حاضر لدينا بقوة في مجال بناء المساجد تحديداً, وهو مشروع استثماري أخروي ناجح بامتياز إن صدقت النية, إلا أن بعض المساجد تزاحم بعضها الآخر في بعض الأحياء, كما أن المسجد يدفع عليه أحياناً عدة ملايين دون أن يكون معه مرافق وقفية يستفيد منها المسلمون, وقبل أيام زرت جامعاً كبيراً في مدينة الرياض كلف ما يزيد على سبعة ملايين ريال مع ملحقات محدودة..! وهنا أتساءل: لماذا لا يلحق بهذا الجامع الضخم الذي يداوي القلوب مركزاً صحياً يداوي الأبدان, فيخفف من أبهة الجامع و""ديكوراته"" لتصرف في بناء المركز, ويستفيد منه أبناء الحي..؟ وقد فعلت ذلك دول كثيرة, ومنها الأردن مثلا في بعض المساجد لديها, وفي مصر أذكر أن الدكتور مصطفى محمود - رحمه الله - قد بنى مسجداً في مصر, وبنى بإزائه مركزاً صحياً يعالج فيه الفقراء بالمجان, فلماذا تهدر الأموال في تكلف البناء في الوقت الذي نرى فيه عجزاً كبيراً في أسرة المرضى بمستشفياتنا الحكومية, حتى صرنا نرى المرضى على الأسرة في طرق المستشفى وممراته, وعلى مرأى من الداخل والخارج..؟!! وهذا الواقع وإن كان يعني الدولة بالدرجة الأولى, إلا أن الوقف يمكن أن يسهم في حل هذه المشكلة المزمنة التي استعصت على وزارة الصحة..! لا سيما أن مثل هذه الأوقاف تحقق مصلحة اجتماعية عامة, وتغذي ضرورة من الضرورات الخمس, وهي ضرورة المحافظة على النفس, وكلنا أمل أن نسمع عن مبادرة كهذه في بلادنا. إن الوقف - كما قال أخونا الدكتور رفيق المصري - يعزز الدور الاقتصادي والتنموي في البلاد, فإذا كان الوقف على الطرق والجسور ونحوها فهو يعد من قبيل الوقف على المرافق العامة ومشاريع البنية التحتية, وإذا كان الوقف على المساجد والمدارس والمعاهد والجامعات والمكتبات والكراسي العلمية فهو يعد من قبيل الوقف على التعليم والتدريب والاستثمار في الإنسان, وإذا كان الوقف على الغذاء والكساء والسكن ونحو ذلك فهو يعد من قبيل الوقف على سد خلات المحتاجين وتلبية حاجاتهم الرئيسة, وإذا كان الوقف على المشافي والعلاج والدواء فهو يعد من قبيل الوقف على الصحة, وهكذا. وقد كان للمسلمين في العصور السابقة اهتمام بالوقف في هذه المجالات وغيرها, وسأركز الضوء على مجال واحد, وهو المجال الصحي, حيث نجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد خصص خدمات معينة للخدمات الطبية وخاصة للمجذومين منهم, وأول من بنى مستشفيات خاصة الوليد بن عبد الملك, ومنها مستشفى خاص بالجذام, بينما بني أول مستشفى للجذام في أوروبا في القرن الثاني عشر للميلاد, ويقال إن الأوروبيين نقلوا هذه الفكرة من بلاد الشام إثر الحملات الصليبية. كما شيد الخليفة المأمون في المدن الكبرى مأوى للعميان والأيتام والنساء العاجزات, كما شيد العرب قديما مستشفيات خاصة بالمجانين والمعتوهين, وهذه المستشفيات والمراكز الصحية وغيرها منها ما كانت تمول من مال الدولة, ومنها ما كان يمول بالأوقاف, ومن أراد الاستزادة بالأمثلة الحية على هذه الأوقاف القديمة في مجال الصحة أو غيرها من المجالات, فليرجع إلى كتاب أحكام الأوقاف للخصاف (ت 261ه) أو كتاب الوقف الإسلامي للدكتور عكرمة صبري, أو بحث الدور الاجتماعي للوقف للدكتور عبد الملك السيد, أو غيرها من الكتب المتخصصة. إن الأوقاف تحمي الأموال من التبديد أو الضياع, كما أنه ينبغي أن تصرف فيما يحقق الأهم من المصلحة العامة, وإذا كانت شريحة واسعة من الأثرياء في بلادنا متجهين لبناء المساجد والجوامع, فعلى الشريحة الأخرى أن تهتم بما يحتاج إليه الناس أو يضطرون إليه, ولا سيما في بناء المراكز العلاجية التي لا يزال عددها دون الحاجة بكثير, والتأمين الصحي الذي توقع البعض أن يحل المشكلة قد ضاعف منها وهو في بداياته, حيث أسهم في ملء المستشفيات بالمراجعين, حتى من قد يتعرض لقرصة نملة, حتى تحولت مستشفيات أهلية وضخمة وذات كفاءة عالية إلى مراكز تعج بأعداد هائلة من المراجعين, فانخفضت الكفاءة - في ظل المادية التي تتعاطى بها بعض المستشفيات - إلى أقل من مستوى بعض المستوصفات الصغيرة..! ولو تم تأمين مراكز طبية متخصصة وغير ربحية لما وقعنا في هذا الواقع المزري, لا سيما وبلادنا معدودة من أغنى الدول في العصر الحاضر. ولئن كان الوقف مستحبا في غير رمضان فهو في رمضان أشد استحبابا, فهل ننتهز الفرصة, ونحمل زمام المبادرة, ونعلق الجرس, فيعلن بعض أثرياء بلادنا تحملهم لبناء مراكز طبية متخصصة هنا أو هناك..؟ لا سيما في ظل عزوف التجار عن هذا النوع من الأوقاف, مع مسيس الحاجة إليها, فكم من فقير أقعده الفقر عن علاج مرضه, مع تعففه وعدم تعرضه للسؤال, وقد أخرج ابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك, ما أعظمك وأعظم حرمتك, والذي نفس محمد بيده, لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك) والحديث صححه الألباني. فهنا اعتبر الشارع حرمة النفس المؤمنة أعظم من حرمة الكعبة المشرفة, ومن باب أولى غيرها من المساجد, فهل يليق بأثريائنا أن يلقوا بثقلهم على المساجد ويدعوا هذا المجال المهم؟ إنه ينبغي توازع الأدوار, وأن يهب بعض الأثرياء لدعم المراكز الطبية بالمباني والمستلزمات الطبية, وبالصروح العقارية لتكون أصولاً تدر على هذه المراكز بريعها السنوي - كما هبوا في دعم المراكز العلمية والبحثية - ومن أجدر هذه المراكز بالدعم: المراكز المتخصصة في علاج الكلى - كجمعية الأمير فهد بن سلمان لعلاج مرضى الكلى - وجمعية علاج مرضى السرطان, وجمعية علاج المعاقين, وبناء مراكز متخصصة لعلاج مرضى السكر, والقلب, والكبد, وغيرها.