لقد سئم الغيورون في بلادنا من تلك الفتاوى الشاذة التي أطلت بوجهها الكالح على مجتمعنا منذ مدة، وقد جاء الأمر الملكي ليضع حدا لهذه الفتاوى الشاذة، كما نص عليها في البيان؛ وذلك لما لتسويق هذه الفتاوى الشاذة من آثار سلبية على سلوك الناس، بل وعلى وحدة الصف، وقد كتبت مقالين في هذه الصحيفة الموقرة حول هذا الموضوع قبل أكثر من شهر تنبيها وتحذيرا من فوضى الفتاوى الشاذة، ولأهمية موضوع البيان الملكي أرى الوقوف طويلا عنده لاستجلاء النقاط المهمة، وتسليط الضوء على قضايا ذات صلة مباشرة بالموضوع، وذلك عبر الفقرات الآتية: الفقرة الأولى: أن الفتاوى الشاذة بدأت تستعر من أناس لا يعرفون بالعلم الشرعي، لا في قبيل ولا دبير، وهؤلاء هم أول من يعنيهم البيان الملكي، فالتقاط الفتاوى الشاذة أصبح ممكنا لغير المتخصصين عبر محركات البحث، وغايات التقاطها متعددة ومتنوعة لا تخفى، ولا سيما في ظل وجود طريقة سهلة وسريعة للتسويق، وهي الإعلام المقروء والفضاء المفتوح، مما مكَّن العديد من خارج التخصص الشرعي أن يدلي بدلوه، سواء كان صحفيا أو غير صحفي، كما سأنبّه عليه في الفقرة الآتية. الفقرة الثانية: أن الذي أشعل شرارة الفتاوى الشاذة هم بعض وسائل الإعلام، والتي وجدت بغيتها في بعض المتهورين، ممن يطلقون الفتوى دون تحسب لما تتركه هذه الفتاوى من آثار سلبية على المستوى المحلي وغيره، وهذه المصادر الإعلامية يجب أن تكف يدها عن تسويق الفتاوى الشاذة، ومفردات أهل العلم المرجوحة، وأقوالهم المهجورة كما نص عليه البيان وهذا يدفع الجهات الإعلامية الناضجة ليكون لها مستشارون متخصصون في المجال الشرعي؛ من أجل أن تعرض عليهم كل قضية فيها نفس فقهي، أو ذات بعد فقهي، لئلا يقعوا في فخ هذه الفتاوى، وفي هذه الفقرة أنبّه على ضرورة التفريق بين التقاط الفتاوى الشاذة وقذفها بقنابل صاروخية، وبين عرض المسائل في الأوساط العلمية على بساط النقاش الموضوعي الهادف. الفقرة الثالثة: أن على رئاسة الإفتاء مسؤولية كبيرة قبل صدور البيان وبعده، حيث يتأكد عليها توسيع قاعدة المفتين من المتخصصين المؤهلين للفتوى، وذلك لئلا يكون العجز الموجود سببا في توسيع الهوة من جديد، واختراق غير المتخصصين لمقام الفتوى، وقد صرح البيان الملكي بإعطاء الصلاحيات لرئاسة الإفتاء بالرفع للمقام السامي لمن تجد فيه الرئاسة الكفاية والأهلية التامة للاضطلاع بمهام الفتوى من أجل الإذن لهم بذلك، وهذا يلقي بالتبعة على رئاسة الإفتاء لتضطلع بدورها في انتقاء المفتين المؤهلين، وتشجيع أهل العلم المؤهلين للفتوى على أداء رسالة التبليغ وكذلك تشجيع ودعم برامج الإفتاء في القنوات الفضائية بالتصاريح اللازمة لمن ترى فيهم الأهلية عبر لجان علمية موضوعية ومحايدة، وأعتقد أن التأخر في ذلك لإجراءات روتينية سيعيدنا إلى المربع الأول من جديد، ويا ليت رئاسة الإفتاء تنتهز هذه الفرصة لوضع رقم مجاني على مستوى المملكة، ليقوم بالرد على أسئلة المستفتين على مدار الساعة، عبر قاعدة عريضة من المفتين، ودور رئاسة الإفتاء يقودنا إلى الحديث عن الفقرة الآتية. الفقرة الرابعة: أن رئاسة الإفتاء هي ضمن منظومة من منظومات مؤسساتنا الشرعية، ومنها جهاز الشؤون الإسلامية والحسبة، وهذه المنظومة لا يصح الإساءة إليها أو الوقيعة فيها تحت أي مبرر وقد أشار البيان الملكي إلى خطر اختراق سياجها الشرعي والنظامي، وإرباك العاملين فيها بالفوضى المصطنعة، وهنا يتعين على وسائل الإعلام وغيرها أخذ البيان مأخذ الجد، وعدم محاولة النيل من المؤسسات الشرعية، أو إسقاط هيبتها، وهذا بطبيعة الحال لا يمنع من مناصحة هذه المؤسسات بما يرتقي من دورها في المجتمع؛ لأن مؤسسات الدولة ككل لا تسلم من الخطأ، وأسلوب النصح والتوجيه يساعدها على الارتقاء بها إلى مصاف الكمال بإذن الله تعالى، كما أن على الجهات المعنية في الدولة دعم هذه المؤسسات الدينية لتواصل الارتقاء بمستواها البشري والمادي. الفقرة الخامسة: أن الأئمة والخطباء عليهم دور كبير في توعية الناس بخطورة الفتاوى الشاذة على السلوك ووحدة الصف، وضرورة سؤال أهل العلم المعروفين بالعلم والفتوى، وعدم تتبع الآراء المهجورة والشاذة، وهذا لا يتبين إلا بسؤال من يثق العامي بدينه وعلمه وأمانته، والله تعالى من وراء القصد.