زين العابدين الركابي الشرق الاوسط اللندنية في الصغر.. وحين كان العود غضا، والذهن بضا، تعلمنا ما تجب معرفته في حق النبي، (كل نبي مرسل).. وهذا الواجب المعرفي الإيماني هو «العلم والأمانة والتبليغ والفطانة».. وهذه الأركان المعرفية في حق النبي نطق بها القرآن وصدع. فبالنسبة لركن العلم نقرأ في القرآن - مثلا - عن يعقوب: «وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ».. وعن يوسف: «ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي».. وعن داوود وسليمان: «وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا».. وعن محمد: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ».. وفيما يتعلق بركن الأمانة نقرأ في القرآن عن نوح: «أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ».. وعن هود: «أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ».. وعن محمد: «يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ».. وعن الأنبياء جميعا بوجه عام: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ».. وفيما يختص بركن الأمانة نقرأ في القرآن عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب أنهم جميعا صدعوا بهذه الجملة: «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ»: كما جاء في سورة «الشعراء».. والمفهوم الكبير المجلوّ في هذا النص هو: أن كل نبي أمين على الرسالة التي أرسلت إليه: يتلقاها كما هي، ويبلغها كما هي: بلا زيادة ولا نقصان، ولذلك خوطب خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم بمثل الآيات التالية: «فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ».. «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ».. «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى».. ومن هنا كان ركن الأمانة في الرسالة هو عماد الاعتقاد في عصمة الأنبياء في البلاغ. أما الركن الرابع في معرفة حق النبي (كل نبي) فهو «الفطانة»: أن يكون النبي «فطنا» في حجته ودعوته.. فطنا في مخاطبة من أرسل إليهم.. فما الفطانة أو الفطنة؟.. من مضامينها ودلالاتها: دقة الفهم وتوقد الذهن وسرعة البديهة وقوة ملاحظة الأحوال والناس وبعد النظر والإدراك اللماح - والعميق في الوقت نفسه – و«الذكاء العملي».. ومن يدرس تاريخ الأنبياء وسيرهم يلتقي - ولا بد - بالحقيقة التالية، وهي أنه ما من نبي إلا كان يمثل أعلى مناسيب الذكاء في قومه، وفي عصره، أي أعلى مناسيب الفطنة.. والنموذج المختار - ها هنا - هو الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأنه أبو الأنبياء وشيخهم، ولأن المقام لا يتسع لأكثر من نموذج.. كان الخليل مناظرا عظيما، فطنا في أسلوبه ودعوته، قوي الحجة حاسمها، مبدعا في المحاورة وطرح الاحتمالات المتهافتة ونقضها: خلوصا إلى الحق واليقين (طالع الآيات 75 - 79 من سورة الأنعام). والعلماء والمفتون والدعاة يتوجب (وهذا هو موضع الشاهد) أن تكون لهم حظوظ وافية من هذه المقومات: العلم والأمانة والتبليغ والفطانة من حيث أنهم منسوبون إلى ميراث النبوة.. وإنه لبودنا - في هذه المساحة - أن نستعرض حظوظهم من المقومات الأربعة، ولذا نختار حظ «الفطانة» لنفرد له بقية المقال. وحظ الفطنة أو الفطانة يُختار - كذلك - لمواجهة ظرف زمني: انتفت فيه الفطنة أو تدنت مناسيبها عند شرائح من الدعاة والمفتين.. ويتمثل هذا التدني في طوفان الفتاوى الغريبة العجيبة التي تزيد الناس بلبلة وتيها، ولا تحقق نفعا أو ترتقي بعمل أو بسلوك، بل بلغ الأمر درجة من الفوضى أصبحت ذريعة للاستهزاء بالإسلام والسخرية منه من خلال سفه يصدر عن مسلمين شَبِقين بشواذ الفتاوى.. وكأن المسلمين ينقصهم هذا البلاء! وثمة فهم صبياني ل«الإبداع» يؤز أصحابه على إطلاق الغرائب والفجائع والشذوذات بحسبانها «إبداعا»! والجدب العلمي والفقهي بارز في هذه الفوضى، بيد أنها فوضى تبرهن على غيبوبة «العقل» أيضا.. وحين يغيب العقل يفسد الدين، وتنطفئ مصابيحه، إذ الدين للعقلاء فقط: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»: أولوا العقول الحصيفة الراجحة.. و«إنما» - ها هنا - للحصر والقصر والتعيين. ومن الدلالة على غيبوبة العقل في فوضى الفتيا: المسارعة إلى الجواب «العجل» عن أي سؤال، في حين أن من خصائص المفتي الفطن: أن يمحص السؤال قبل الجواب عنه، فإذا رآه تافها أعرض عنه، وإذ رأى فيه اعوجاجا عدله وقوّمه. ذلك أن الجواب عن السؤال المعوج: مسايرة على الاعوجاج والتياث به.. سأل رجل الإمام مالكا، فقال: أيها الإمام: ما تقول في امرئ قال لأخيه يا حمار؟.. قال الإمام مالك: أرى أن يعزر لأن الإنسان مكرم ولا ينعت بحمار.. ثم قال السائل: وما يقول الإمام في رجل قال لأخيه: يا فرس؟.. قال الإمام مالك أرى أن تعزر أنت.. ثم صاح فيه: يا عديم العقل. هل سمعت إنسانا يقول للآخر: يا فرس؟! لقد طفق خلق كثير يفتي بلا علم، أو بقليل من العلم، أو بعلم غير موثق، وغير متبصر بالحال والمآل.. وهذا منزع شؤم يؤذي الإسلام، ويصيب الناس بعاهات فكرية واجتماعية وبيلة.. منذ ثمانية قرون كتب ابن قيم الجوزية في «إعلام الموقعين عن رب العالمين» يقول: «ولا يتمكن المفتي من الفتوى إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط بهما علما.. والنوع الثاني، فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر.. وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات».. فليعقل هذا الكلام أقوام استسهلوا أمر الفتيا وسارعوا إليها كمن يسارع إلى النار. وقد ترتب على ذلك من البلبلة والإرجاف والفتنة ما ترتب. فلتسكت - في هذه الفتنة الطامة - ألسنة وأقلام ضمر عقلها، وقل علمها بالشرع، وعلمها بالواقع فضرت وما نفعت، وأثارت وما طمأنت، وأوبقت وما أنجت. ولئن كان حظ المفتي الموفق من ميراث النبوة: أن يكون فطنا في تلقي السؤال، وفي الجواب عنه. فطنا في مراعاة الأحوال. فإن حظ الداعية من ميراث النبوة أن يكون فطنا عالما (فالدعوة علم وفطنة، لا مجرد حماسة جياشة)، وأن يكون هينا لينا سمحا عالي التهذيب رؤوفا رحيما سوي الفطرة نقي الضمير طاهر الباعث نبيل المقصد غير فظ ولا غليظ القلب: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ». ونطرح - ها هنا - سؤالا علميا وعمليا كبيرا وواجبا وهو: هل كل خريج في كلية دينية يصلح أن يكون مفتيا وداعية؟ هل خلو شخصية الخريج من الفطنة اللازمة ومن الخصائص الأخرى المضيئة يمكن أن يكون مانعا من تعيينه «التلقائي» في هذه المناصب أو المواقع؟.. لا ريب في أن التأهيل الأكاديمي ضروري، لكن الواقع ناطق بأنه لا يكفي وحده.