خالد الرفاعي - الجزيرة السعودية في لقاءٍ تلفزيوني سريع -سيعرض خلالَ شهر رمضان القادم- سألتُ د.الغذامي: «هل أنتَ حزينٌ؟» فأجابني بالنفي، واستمرَّ يقوي نفيه بعددٍ من المؤكّدات، غير أنه أشار في آخر إجابته إلى قربه من البكاء، فهو -كما يعبِّرُ- رجلٌ قريبُ الدمعةِ. تأملتُ هذه الإجابةَ فوجدتها تتكوّن من شِقّين: الأول: النفيُ، والثاني: الاستدراكُ على النفي عن طريق إثباتِ أحد لوازمه (البكاء). في الشقِّ الأول نجد أنفسنا أمام نفي لحالة الحزن، وفي الشقِّ الثاني نجد أنفسَنا أمام نفي للنفي المطلق، ولو أردتُ أنْ أعيدَ صياغةَ تلكَ الإجابة بناءً على هذه القراءة لكانتْ على النحو التالي: «أنا لستُ حزيناً، لكنني على استعدادٍ دائمٍ للبكاء»!! تشتمل إجابة الغذامي على أداة نفي بل أدوات، لكنها رغمَ ذلك لا تؤدّي وظيفة النفي، وحلُّ هذه المفارقة سيتجاوز بنا الحديثَ عن إثبات حالة الحزن إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث تحديدُ مستوى الحزن، ومولّداتُهُ أيضاً، وهو ما أتغياه من هذه المقالة -ومقالات لاحقة أيضا-. أولاً: من الطبيعي أنْ ينفيَ الغذاميُّ عن نفسه الحزن فهو عربيٌّ، وعربي يقرُّ بنسقيته الكاملة أيضاً، ولأنه كذلك فإن في تركيبته الفكرية والنفسية الكثيرَ مما يدفعه إلى نفي هذه الحالة، ومن أهمِّها حياءُ العربي من إظهار حزنه حتى في أكثر لحظاته الوجدانية انكساراً، وإذاكان (جرير) شجاعاً في الاعتراف بحيائه حين قال: «لولا الحياء لهاجني استعبار» فإن الغذامي لم يستطع الاعترافَ المباشرَ بحزنه، ولا بحيائه من الاعتراف به؛ لذلك لجأ إلى الضمني، فنفى الحزنَ في شق من الإجابة وأثبت واحداً من أهمِّ لوازمه في الشقّ الآخر، ثم زاد على ذلك أنّ أقرّ بنسقيته في إجابته عن سؤال ثانٍ، وكأنه يعطينا من كلامه ما يمكن أن نفسِّرَ ببعضه بعضَه. من يتأمّل إجاباتِ الغذامي في اللقاء السريع الذي أجريتُهُ معه، أو في اللقاءات التي أُجْريَتْ معه مؤخَّراً (الوطن - سبق الإلكترونية - عكاظ - قناة دليل...إلخ) يجدْ إجاباته تجتمع في ثلاثِ جمل، هي على النحو التالي: - « أنا لستُ حزيناً». - « أنا رجلٌ بَكّاء» (ونلحظ هنا صيغة المبالغة: فعّال). - «أنا نسقي كامل النسقية» (ونلحظ هنا كلمة كامل التي تتعارض على المستوى الدلالي مع وظيفة الاستثناء). حين نجمع بين هذه الإجابات نجد أنّ نفيَ الغذامي ليس نفياً مطلقاً بدليل إثباته لازماً من لوازم المنفي (الحزن)، وما من شكّ في أنّ إثباتَ اللازم إثباتٌ بالضرورة لما هو لازمٌ له، ثمّ إنّ نفيه له ما يسوِّغه بدليل إقراره بنسقيته الكاملة، وفي كلمة (كاملة) ما يقطع الطريقَ على أي نوعٍ من أنواع الاستثناء -كما أسلفت-. الغذامي تبعاً لهذه القراءة ليسَ حزيناً، لكنه يبكي كثيراً، وحين ينفي حزنه فلأنه نسقي كامل النسقية. بهذا تتكشّف أضلاعُ الإجابة، وتتحوّل من نفي حالة الحزن إلى نفي الإقرار بها، وهو نفيٌ لا يتوجه إلى المنفي بقدر ما يتوجه إلى نفي تبعاته عن النافي نفسه، وهذا تقليدٌ عبّر عنه الشعراءُ والكتابُ في العربية، نقرأ لمجنون ليلى (مع اختلافٍ في النسبة إليه): وقلنَ لقد بكيتَ فقلتُ كلا وهل يبكي من الطرب الجليدُ؟ ولكن قد أصابَ سوادَ عيني عُوَيْدُ قذى له طرفٌ حديدُ فقلنَ فما لدمعهما سواءٌ أكلتا مقلتيكَ أصابَ عودُ؟ يظنُّ من يقرأ هذه الأبيات دون تأمل أن انكشافَ أمر الشاعر كان على يد الصبايا اللاتي سألنه، في حين يبدو للمتأمل أن انكشافه -أولاً- كان على يديه هو، وذلك حين فسّر نفيه بسؤالٍ يتعلق به نافياً: (كلا وهل يبكي الجليد؟)؛ إذ لو كان نفيه للبكاء لكانت الإجابة متعلقة بالمنفي مباشرة (كلا، وماذا يبكيني؟). نفي الغذامي يدخل تحت هذا التقليد، فهو ليس نفياً للحالة بقدر ما هو نفي لما يترتب على إثباتها في حقّه، وكأنه يقول: أنا لستُ حزيناً وما ينبغي لمثلي أنْ يحزن؟ ثانياً: يعي الغذامي جيداً أنّ إقراره بحالة الحزن التي تسيطر عليه اليوم هو إقرارٌ بالضرورة بانهزامه أمام خصومه، ومن يقرأ حكاية الحداثة يجد الغذامي حريصاً على التجلي منتصراً حتى والهزيمة تغطيه من رأسه إلى أخمص قدميه، وسأضرب على ذلك مثالاً واحداً: يروي الغذامي في كتابه (ص233) أنه أخفى عن زملائه السببَ الرئيسَ لانتقاله من جدة إلى الرياض، وأوهمهم بأن انتقاله يعود في السببية إلى مرض أبيه -رحمه الله-؛ ليقنعهم بأنه انسحابٌ برغبته وليس بضغطٍ من الآخرين، ولمدة محددة وليست على الدوام، وبذلك يتجنّب صفة الانهزام التي يُتوّج بها المنسحبون عادةً. ولحرصه على عدم البروز منهزماً أمام خصومه فقد طلب من د.رضا عبيد (مدير الجامعة آنذاك) أن ينهيَ إجراءات الانتقال من مكتبه دون الحاجة إلى عرض المعاملة على خصومه أعضاء القسم، فكان له ما أراد (ص275). وبما أن الكتاب جاء على صيغة حكاية، ورواية الحكاية لا تبدأ إلا بعد نهايتها، فقد كشف الغذامي للقارئ السببَ الرئيس لانتقاله، نقرأ: «ولو ظللت في ذلك الجو لتعرضت لخطر ذهني أو صحي؛ نتيجة للعداء البالغ الذي أحاط بي...» (233). هي إذن هزيمة، وهكذا عبر عنها في موضع سابق حين قال: «وانتصر النسق في واحد من معاركه ولا شك، وكم رأى أناس أن انتقالي من جدة كان علامة على انكسار الحداثة وهزيمتها، وقد أعلنوا ذلك وبثوه في الصحف والمقالات» (ص230). من خلال المقطعين السابقين -وربما عداهما- نلحظ الغذامي يقرُّ بالهزيمة آناً ويتعالى على الإقرار بها آونةً أخرى، ولقد برز تردّده بين ضرورة التعبير وحرجه في أكثر من موضع من كتابه، نلمس شيئاً من هذا في قوله «ولو ظللت لتعرضت لخطر»، وهي جملة تفيد بعدم تعرضه لخطرٍ قبل انتقاله، مع أنّ هناك مقطعاً يجاورها يأخذنا إلى دلالة أخرى: «وانتصر النسق»، وما من شك في أنّ انتصارَ طرفٍ مظنةُ انهزامِ طرفٍ آخر. إنه -إذن- حرصه الكبيرُ على التجلد للشامتين حتى وهو منقسمٌ شظايا، ولذلك حين أحسّ بأنه تجاوز في صدقه مع القارئ الحدّ المقبول، تحرّف إلى توجيه دلالات الحكاية؛ ليعيد إلى نفسه قوتها وانتصارها، مبرزاً كيف أنّ الأيام التي قضاها في الرياض من أجمل أيام حياته، وأن ما أراده له خصومه لم يتحققْ منه شيء!! في الحكاية -إذن- عرضٌ للحقيقة، وفيها أيضا توجيهٌ مستمر لما يصل إلى القارئ منها، وهو عينه ما وجدناه في إجابته عن سؤال: «هل أنت حزين؟». ثالثاً: لو فاجأنا الغذامي ونفى حالة الحزن نفياً قاطعاً، دون أن يقدم بين يدي نفيه ما يخففه، هل سيكون نفيه معتبراً؟ إنّ الإجابة عن تساؤل مثل هذا ستعيدنا إلى التفريق بين الشخص والشخصية، وهو تفريقٌ أكدت أهميته في المقالة الأولى، فحين ينفي الغذامي - الشخص حزنه فهو نفي خاص بوصفه شخصاً، ولا يجوز أن ينتقل هذا النفي من هذه الحالة من الخصوصية ليكون عاماً فيشمله بوصفه شخصية؛ لأنّ السياقات التي تحيط بالإنسان حين يتحدث إلى الآخرين، تختلف تماماً عن السياقات التي تحيط به حين يمارس عملية الكتابة؛ فهو حين يكتب يتحرك في سياق العزلة وحين يتحدث يتحرك في سياق الخلطة، حين يكتب يحكّك أفكاره (يفكر- يكتب - يراجع ما يكتب) وحين يتحدث يجريها على وجهها، حين يكتب ينطلق عادة من أسئلته وحين يتحدث إلى الآخرين ينطلق عادة من أسئلتهم هم، حين يكتب ينطلق من متلق خاص يخلقه هو، وحين يتحدث ينطلق من متلق فرضته عليه الصحيفة أو القناة...إلخ. وهكذا تبدو السياقات متناقضة تماماً في الحالين، وعلى هذا الأساس يبدو الشاعر الثري في الواقع صعلوكاً معدماً في شعره، ويكتب الذي يضحك الناسَ في المجالس المفتوحة ما يبكيهم في غرفهم الخاصة. التفريق التام بين الشخص والشخصية يجعل تصريح الأول عن نفسه أقلّ درجة من قراءة الآخرين له، وتحت هذه القاعدة تندرج مقولة المتنبي: «ابن جني أعلم بشعري مني»، وتحتها يمكن أن تندرج مقولة نجيب محفوظ حين عُرضت عليه قراءة لإحدى رواياته أنتجت لها مغزى جديداً، فقال: «لم أكن أقصد هذا لكنه يعجبني». الغذامي -هو الآخر- يعرف نفسه جيداً، لكنْ للآخرين مداخلهم الخاصة في معرفة ما لا يعرفه عن نفسه، ومهما حاول نفيَ حالة الحزن عنه فإن أدوات النفي التي يستعين بها ستخونه حين تصل إلى العالمين بما لا يعلم، وستؤدّي عندهم -بإخلاصٍ كبير- وظيفةَ الإثبات الأعلى.