نيابة عن أمير قطر.. محمد آل ثاني يقدم العزاء في وفاة محمد بن فهد    «الروبوتات» والأرحام الاصطناعية.. بين الواقع والخطر!    خاصرة عين زبيدة    لماذا صعد اليمين المتطرف بكل العالم..!    السفراء وتعزيز علاقات الشعوب    مقومات الانتصار والهزيمة    سكالوني: ميسي يتطلع للمشاركة في كأس العالم 2026    رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري يقدم واجب العزاء في وفاة الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز    حوكمة لوائح اختيار رؤساء الأندية    المطوع ل «عكاظ»: لن أترك «هوساوي» للنصر    الغامدي يختار مدينة المستقبل لصقل موهبته    زكريا هوساوي يتعرض لكسر في الوجه    التراث الذي يحكمنا    إحباط تهريب 2.9 كجم "حشيش" و1945 قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي في تبوك    «الأونروا» تعلن نقل موظفيها خارج القدس المحتلة بسبب قرارات إسرائيل    الأمير خالد بن سلطان وباخشب يرفعان حدة التحدي قبل انطلاق سباق الأساطير برالي حائل    مصحف «تبيان للصم» وسامي المغلوث يفوزان بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام    أمير منطقة جازان يزور مركز تطوير البن السعودي    ترمب: «لا ناجين» من كارثة الطائرة والمروحية في واشنطن    الذهب يسجل رقما قياسيا ب 2796 دولارا للأوقية    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    أمريكا: نمو الاقتصاد يتباطأ بأكثر من المتوقع    تكرّيم 30 منشأة بجائزة العمل في دورتها الرابعة    شراكات جديدة بين هيئة العلا ومؤسسات إيطالية رائدة    ليندو السعودية تحصل على 690 مليون دولار أمريكي من جيه بي مورغان    الأمين العام لمجلس الشورى رئيسًا بالتزكية لجمعية الأمناء العامّين للبرلمانات العربية    تتيح لهم حضور الجلسات القضائية بالصوت والصورة.. «العدل» تُطلق مبادرة خدمات السجناء    استشاري طب نفسي: 10% من مشاهر شبكات التواصل مصابين بالانفصام    تجمع القصيم الصحي يفوز بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية السعودي 2025    "مفوض الإفتاء بمنطقة حائل":يلقي عدة محاضرات ولقاءات لمنسوبي وزارة الدفاع    أمانة القصيم تستعرض إنجازاتها لعام 2024 بإبرام عقود استثمارية    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم مبادرة " تمكين المرض"    الديوان الملكي: وفاة الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    ترامب يأمر بإعداد منشأة في قاعدة غوانتانامو لاحتجاز 30 ألف مهاجر غير شرعي    وزارة الشؤون الإسلامية تقيم يومًا مفتوحًا للمستضافين في برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة    الأرصاد: سحب رعدية ممطرة على مرتفعات مكة والجنوب وأمطار خفيفة بالرياض والشرقية    المفتي للطلاب: احذروا الخوض في منصات التواصل وتسلحوا بالعلم    سيراً على الأقدام .. المستكشفة «موريسون» تصل العلا    لأول مرة.. إطلاق التقويم المدرسي برياض الأطفال والطفولة المبكرة والتربية الخاصة    البهكلي والغامدي يزفان "مصعب" لعش الزوجية    عشر سنبلات خضر زاهيات    ولي العهد يستقبل الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال (15) إلى سوريا    وسط حضور فنانين وإعلاميين .. الصيرفي يحتفل بزواج نجله عبدالعزيز    «بينالي الفنون» يُثري زواره بكنوز الحضارة الإسلامية    المسلسل مستمر    مختبر تاريخنا الوطني    غداً.. محمد عبده يُجسد فلسفة الخلود الفني على مسرحه في الرياض    حسام بن سعود يستعرض مشروعات المندق    أمير حائل يناقش خطط القيادات الأمنية    خطورة الاستهانة بالقليل    الإرجاف فِكْر بغيض    شخصية الصرصور    «السياحة الثقافية».. عندما تصبح الفنون جواز السفر    إطلاق حملة للتبرع بالدم في الكورنيش الشمالي بجازان    الشيخوخة إرث وحكمة    انطلاق مؤتمر السكري والسمنة في جدة «5 فبراير»    أهالي الشرقية ينعون الأمير محمد بن فهد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرؤية السياسية لمحمد بن عبدالوهاب

لا يعرف الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلا على أنه عالم ومصلح ديني، وذلك انطلاقاً من دعوته التي أطلقها في منتصف القرن 12ه/18م إلى التمسك بالتوحيد، ومحاربة كل أنواع الشرك. وهو كان كذلك. لكن لم يلاحظ أحد من قبل أن الشيخ كان مصلحاً سياسياً أيضاً. والأرجح أن سبب طغيان شهرة ابن عبدالوهاب الدينية على دوره السياسي يعود أولاً إلى أن اهتماماته وكتاباته الدينية تطغى بكثير على كتاباته السياسية، وثانياً أن مقاربته للمسألة السياسية كانت دائماً ما تتم من خلال رؤيته الدينية، وبالتالي كان دوره السياسي بغطاء ديني سميك. وهو سميك ليس فقط بحكم تخصص الشيخ، بل أيضاً لأن مجتمع الجزيرة العربية، بل وأغلب العالمين العربي والإسلامي، لم يعرفوا في ذلك الزمان إلا التعليم الديني. لم يكن الخطاب الديني حينها هو السائد، كان هو الخطاب الوحيد. وبالتالي كان من الطبيعي أن يتم التعبير عن كل شيء تقريباً، بما في ذلك المواقف والتوجهات السياسية، بلغة دينية، أو لغة أقرب ما تكون إلى اللغة الدينية من غيرها.
وهذا في حين أن المساهمة السياسية، وتحديداً الإصلاح السياسي للحركة الوهابية لا تقل أهمية بأي حال عن مساهمتها في الإصلاح الديني. بل ربما جاز القول إن الخطاب الديني للحركة كان بمثابة التأسيس الأيديولوجي للإصلاح السياسي الذي كانت الحركة تسعى إلى تحقيقه. ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن الشيخ ابن عبدالوهاب لم يكن داعية أو مصلحاً دينياً فحسب، بل كان إلى جانب ذلك صاحب مشروع سياسي أيضاً. وهذا ما يحتاج إلى شيء من التوضيح. لم يكن للرجل طموح إلى قيادة سياسية لشخصه أو لعائلته، ولم يكن يعمل حتى على أساس قريب من ذلك. وهذا ما أثبتته التجربة السياسية لما يقرب من ثلاثمائة سنة من علاقة بيت الشيخ محمد بن عبدالوهاب مع البيت السعودي الحاكم. كان الشيخ، كما يبدو، على وعي كامل بالطبيعة الاجتماعية والسياسية لمجتمع الحاضرة النجدية الذي ولد ونشأ فيه. كان هذا المجتمع قد استقر آنذاك على صيغة سياسية واضحة، انقسم على أساسها إلى إمارات، أو مدن مستقلة سياسياً عن بعضها البعض. وكانت كل مدينة أو بلدة تخضع لحكم عائلة بعينها. كانت العوائل التي تحكم هذه المدن تُعرف في أدبيات تلك المرحلة ب"الرؤساء". وكان من الواضح أن الرئاسة، أو حكم هذه المدينة أو تلك محصور في "الرؤساء". بالإضافة إلى ذلك، كان العرف الديني والاجتماعي الحاكم في ثقافة الحاضرة النجدية يقضي بأن دور الشيخ، أو رجل الدين يجب أن يكون محصوراً في الجانب الديني والاجتماعي، وبالتالي يجب أن يبتعد، أو يترفع عن أية طموحات لتسنم مركز أو قيادة سياسية. وتاريخ الجزيرة العربية بشكل عام، وبشكل خاص تاريخ نجد من حيث إنه موضوعنا هنا، يشهد بالفصل الكامل بين دور كل من رجل الدين ورجل السياسة. لم يكن من الوارد أبداً أن ينزلق رجال الدين، خاصة العلماء منهم، إلى التطلع لدور سياسي، على الأقل ليس دوراً سياسياً واضحاً. ولا يسعفنا التاريخ بأمثلة على دخول المشايخ معترك الطموح السياسي للإمارة أو القيادة السياسية. لعل الاستثناء الوحيد هنا كان الشيخ دخيل بن رشيد، الذي يبدو أن كونه من عائلة كانت تحكم عنيزة هو الذي فرض عليه تولي إمارة هذه المدينة 1174ه/1760م قبل أن تستولي عليها الدولة السعودية.
كان رجال السياسة، مثل غيرهم، يعرفون هذا الزهد السياسي عن العلماء، وكانوا يقدرونه ويجلونه، بل ويشجعون على ترسيخه، وذلك حتى لا تزدحم حلبة المنافسين. هذا لا يعني طبعاً أنه لم تكن لرجل الدين مصالح سياسية، لكنها مصالح لا تنتمي إلى المعترك السياسي مباشرة، وفي كل الأحوال لا تصل إلى درجة التطلع لمراكز قيادية في هذا المعترك. يكفي بهذا المعنى أن المركز الديني في المجتمع يعطي صاحبه مكانة وسمعة، وقبل ذلك يعطيه دوراً في حل الخلافات والمشاكل الاجتماعية، بما في ذلك الخلافات السياسية. وقد اشتهر العلماء الوهابيون بدورهم البارز في محاولة حل الخلافات السياسية. من أبرز هؤلاء المشايخ عبدالرحمن بن حسن، وعبداللطيف بن عبدالرحمن، وحمد بن عتيق، وذلك أثناء الحرب الأهلية التي أتت على الدولة السعودية الثانية. ومنهم أيضاً عبدالله العنقري أثناء تمرد "الإخوان" في عهد الملك عبدالعزيز. ومنهم أيضاً الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبدالعزيز بن باز أثناء الخلاف بين الملك سعود بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير فيصل بن عبدالعزيز. وعندما تضيف إلى ذلك دور المشايخ في القضاء، والإفتاء، والتعليم الديني، تتضح خطورة الدور الذي كان رجال الدين يضطلعون به في المجتمع، من حيث تأثيرهم الكبير في صياغة العلاقات الاجتماعية، بل وصياغة ثقافة المجتمع، والعمل على إعادة إنتاجها جيلاً بعد جيل. وهذه بحد ذاتها كانت تمثل قوة سياسية لا يستهان بها، لكنها قوة غير مباشرة، مستمدة من مكانتهم الدينية قبل أي شيء آخر. سوف يتغير الأمر مع توسع الجهاز البيروقراطي للدولة الثالثة، وتحول المؤسسة الدينية إلى واحدة من مؤسسات الدولة. لكن هذا حديث آخر.
يبقى سؤال ملح في هذا السياق: إذا كان المنصب الديني يمنح صاحبه مكانة في المجتمع، ومصدراً للتأثير الاجتماعي والسياسي، إلى جانب مكاسبه الأخرى، ألا يعتبر أيضاً منصباً سياسياً؟ ليس بالضرورة، لأنه لا بد في الأخير من التمييز بين المنصب السياسي الذي يستمد شرعيته وسلطته من شروطه ومتطلباته كمنصب سياسي، وبين منصب آخر، مثل المنصب الديني، الذي قد يمنح صاحبه قوة وتأثيراً سياسيين، لكن شروطه ومتطلباته تختلف عن ذلك بشكل واضح.
في هذا الإطار الذي رسمنا خطوطه العريضة لدور رجل الدين، كان من الطبيعي أن الدور السياسي للشيخ محمد بن عبدالوهاب ظل متوارياً خلف شخصيته الدينية، ومركزه الديني في المجتمع، ومعه أيضاً توارت رؤيته السياسية. بعض ما ذكرته في الحلقات السابقة يكشف بعضاً من جوانب هذه الرؤية، وذلك أنه كان أول من طرح فكرة أو خيار الدولة المركزية في الجزيرة العربية. كما أشرت أيضاً إلى التناغم الكامل بين رؤية الشيخ لمفهوم التوحيد، وتركيزه بشكل خاص على توحيد الألوهية، من ناحية، وبين الواقع السياسي لحاضرة نجد الذي كان يعاني الأمرين من الانقسام، وعدم الاستقرار السياسيين، من ناحية أخرى. وبعبارة أخرى، كأن الطرح النظري الديني للشيخ عن التوحيد يمثل استجابة لواقع سياسي في أمس الحاجة إلى التوحيد السياسي. ويتكامل ذلك، كما أشرت من قبل، مع حقيقة أن توحيد الألوهية بشكل خاص هو الصيغة السياسية لمفهوم التوحيد بمعناه العام.
لكن كل ذلك لا يغني عن التعرف إلى رؤية الشيخ ابن عبدالوهاب السياسية من مصدريها الأساسيين، وهما: ما كتبه هو نفسه في المسألة السياسية، أو ما دبجه في بعض رسائله الشخصية مما له مضمون سياسي. ثم الدور السياسي العملي الذي اضطلع به أثناء تأسيس الدولة السعودية الأولى. لماذا من المهم التعرف إلى الرؤية السياسية لابن عبدالوهاب؟ ليس لأنه مؤسس الحركة الوهابية، وأول من طرح فكرة الدولة المركزية في وسط الجزيرة. كل هذه وغيرها معطيات لها من الأهمية بحد ذاتها ما يبرر العناية بالرؤية السياسية لصاحبها. لكن هناك مبررات أخرى، لا تقل أهمية، ويأتي في مقدمها الحاجة التاريخية للتعرف إلى مدى التطابق بين الموقف الديني للشيخ من ناحية، ورؤيته السياسية من ناحية أخرى. وذلك لأن هذه العلاقة بين الديني والسياسي في موقف الشيخ لها أهمية قصوى لأنها أولاً تقدم حالة تاريخية أخرى على هذه العلاقة في الفكر والتاريخ الإسلاميين. وثانياً أنها تضع حركة ابن عبدالوهاب ودعوته ضمن إطارهما التاريخي والاجتماعي الذي ظهرتا فيه، حيث إن السائد في تناول الحركة الوهابية أنه يتم النظر إليها غالباً هكذا من دون أي إطار، عدا الإطار الإسلامي العام، وتحديداً إطار السجالات المذهبية أو الطائفية في جدل سياسي ظل ولا يزال يعتمل في الفكر السياسي العربي والإسلامي منذ قرون. وفي كل ذلك، ظل الشرط الاجتماعي والتاريخي لحركة الشيخ ولدوره مغيباً تماماً. من هنا أهمية التعرف إلى رؤيته السياسية في محاولة للإطلالة على بعض من هذا المغيب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.