قد تصبح بلجيكا أول بلد أوروبي يفرض حظراً شاملاً على النقاب، فقد وافق البرلمان البلجيكي على حظر النقاب في الأماكن العامة، علما بأن "عدد النساء اللائي يرتدين البرقع في بلجيكا يتراوح بين 8 و12 سيدة في كل أنحاء الدولة".. هكذا تناقلت وسائل الإعلام الخبر، بينما قال أحد المتحدثين على قناة بي.بي.سي البريطانية إن عدد المنقبات في بلجيكا هو 28 امرأة، علما بأن عدد المسلمين في بلجيكا يقرب من نصف مليون مسلم، وفي فرنسا قال أندريه جير آن، رئيس اللجنة البرلمانية المكلفة بإعداد تقرير حول حظر النقاب في فرنسا، "إن المنع سيكون تاما في الأماكن العامة"، وكان رئيس الحكومة الهولندية جان بيتر بالكننده قد قال "إن الأردية (الأغطية) الإسلامية التي تغطي الوجه كالنقاب والبرقع، إضافة إلى الأردية الأخرى المماثلة كأقنعة التزلج على الجليد، لا تتلاءم مع قيم المجتمع المنفتح"!! وفي بريطانيا يدور جدل حول النقاب وهناك محاولات لإصدار تشريع يمنع النقاب.. فهل النقاب يشكل أولوية عند المسلمين في أوروبا؟ قد يقول قائل إن الذي يثير هذه القضية في البرلمانات الأوروبية هي الأحزاب اليمينية التي يوصف بعضها بأنه متطرف كحزب الحرية في هولندا بقيادة غيرت فيلدرز وحزب الحركة الإصلاحية الليبرالية في بلجيكا، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسية بزعامة جان ماري لوبان، وغيرها من الأحزاب اليمينية في أوروبا، وتأتي إثارة هذه القضية لتخويف المجتمع الأوروبي من الإسلام وكسب أصوات الناخبين الأوروبيين، كما حدث مؤخرا في الانتخابات المحلية في هولندا حين حقق حزب الحرية تقدما ملحوظا، ولكن يبقى السؤال: "هل من مصلحة المسلمين في أوروبا إثارة مثل هذه القضايا؟"، إنني لا أتحدث عن حُكم النقاب، فإذا كان بعض العلماء يوجبه على المرأة، فإن كثيرا منهم قديما وحديثا يرى أن الواجب هو الحجاب، وأن النقاب ليس بواجب، ولذا فليس على المرأة تغطية وجهها في الأماكن العامة، وإذا كانت هذه المسألة ليست قطعية في بلاد المسلمين، فلماذا يجعلها بعض من يعيش في أوروبا "أم المعارك"؟ إن أحدنا إذا مر في مكان عام في بلاد إسلامية ورأى امرأة منتقبة، فإنه يفهم لماذا تلبس هذه المرأة هذا "اللباس"، ويعرف أنها تأخذ برأي القائلين بالوجوب، ولكن هل يعرف الإنسان الأوروبي هذا الحكم وهو يرى امرأة منتقبة في شوارع مدنه؟ إن اختلاف الثقافتين يجعله في ريبة من هذا اللباس، ويحمله وفقا لثقافته على أنه تقييد لحرية المرأة، أو عزل لها عن الحياة، أو محاولة لفرض قيم وسلوكيات غريبة عليه في بلده!!، وأحيانا يفسرها باعتبارها ظاهرة للتطرف أو التشدد أو العنف، وأن هذه الظاهرة خطر على الأمن في مجتمعه، وهنا يأتي السؤال الآخر: لماذا لا يأخذ المسلمون في أوروبا بالرأي القائل إن النقاب ليس بواجب، وهو الرأي الذي يأخذ به عموم المسلمين في بلادهم الإسلامية، ولماذا نفرض مسألة خلافية في بلاد المسلمين على مجتمعات أخرى، وهل هذه المسألة الخلافية أولى عند المسلمين من أخذ حقوقهم العامة في أوروبا، أو التعريف بالإسلام ونشره بين الأوروبيين، أم هي الرؤية الذاتية، دون التفكير بالمصلحة العامة للمسلمين في هذه الدول، إذ يقدم أحدهم "مصلحته الذاتية"، ويأخذ الرأي الذي يستحسنه في مسألة خلافية على تحقيق المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، لكن المسألة أعمق من ذلك، فبعض المسلمين الذين يعيشون في الغرب ما زالوا ينظرون إليه بفكر "دار الحرب، ودار الإسلام"، وهم لا يرون فيه موطنا أو دار إقامة، أو حتى "دار عهد" كما يقول الفقهاء، بل يذهب بعضهم إلى ما هو أسوأ من ذلك حين يرى أن إقامته في الغرب حالة ضرورة مثل "دخول الحمام لقضاء الحاجة"!! علماً بأن من يقول هذا يحمل جنسية البلد الأوروبي الذي يعيش فيه ويتلقى مساعدة اجتماعية تعينه على الحياة الكريمة، ويحصل على حماية ذلك البلد بعد أن حكم عليه وطنه الأصلي بالإعدام.. فهل هذا من خُلق الإسلام؟ وهل النقاب أولوية بالنسبة للمسلمين في أوروبا، أم أن هناك قضايا أخرى تحتاج إلى عناية المسلمين واهتمامهم أكثر من النقاب؟ إن من يدافع عن النقاب يحتج بالحرية والديمقراطية والقوانين الأوروبية، لكن يغيب عنه ضرورة الالتزام بهذه القوانين التي لا تخالف التزاماته الدينية الواضحة والمتفق عليها، رغم تجاوز بعض الدول في مسائل محددة مثل الحجاب في فرنسا، أو إقامة المآذن في سويسرا، لكن الشعائر العامة للمسلمين كحرية العقيدة والعبادة والحريات العامة مكفولة للجميع، والتذرع بالقوانين الأوروبية لا يعني أن تفرض أقلية من المسلمين اختيارها في مسألة مختلف عليها عند جميع المسلمين، وتصنع واقعا اجتماعيا وثقافيا في مجتمعات ما زالت صورة الإسلام لديها مشوهة بدراسات المستشرقين وسلوك بعض أبناء المسلمين الذين يبدو أنهم يعيشون خارج التاريخ والجغرافيا! لقد حضرت منذ سنوات مؤتمرا عن مشاركة المسلمين في أوروبا، من أهلها الأصليين أو من المهاجرين، في الحياة العامة، وبخاصة المشاركة السياسية في البرلمان والمؤسسات الأخرى، وبدا واضحا أن معظم الاتجاهات تذهب إلى ضرورة المشاركة في الحياة العامة والسياسية، لكن هناك فئة جاءت من الشرق العربي والإسلامي "تحرّم" هذه المشاركة، مما أضاع على المسلمين فرصا كثيرة، وجعلهم فئة منعزلة داخل المجتمعات الأوروبية، في الوقت الذي استطاع فيه اليهود، رغم قلتهم، أن يصبحوا قوة فاعلة ومؤثرة في الحياة السياسية لا في أوروبا وحدها بل في الأميركيتين وبخاصة الولاياتالمتحدة الأميركية، بل إن الأقليات الأخرى كالهندوس والبوذيين والسيخ وغيرهم أصبح لهم حضور ومشاركة واضحة في الحياة العامة، بينما ما زال المسلمون بين عزلة كاملة أو ذوبان كامل. إن الخلل في الأولويات هو الذي جعل بعض المسلمين يقيم معركة من أجل النقاب أو ضرب النساء، أو لبس السروال الواسع (على الطريقة الأفغانية) أو غيرها من المسائل، وأعطى للإعلام المعادي مادة يشغل الناس بها، ويظهر بها الإسلام بصورة مشوهة.