اختلف العاملون في الحقل الدعوي حول مشروعية بعض الوسائل السياسية المستخدمة في الدعوة إلى الله، وبالتالي مدى مشروعية الدخول في المعترك السياسي، فبينما رأى البعض وجوب حصر الدعوة في طرق انتشارها التقليدية كالخطب والدروس والمحاضرات والمدارس والجامعات والتأليف والاتصال الفردي ونحوه، أكد البعض الآخر على وجوب استخدام كل وسيلة مشروعة ما دام لم يأتِ نص بتحريمها، فقام علماء الدعوة السلفية من أمثال الشيخين عبدالعزيز بن باز ومحمد بن صالح بن عثيمين بحسم الخلاف بإفتائهما بجواز الدخول في العمل السياسي، وهو المفهوم نفسه الذي قام بتأصيله الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق في كتابه «المسلمون والعمل السياسي»، حين ساق أدلة مشروعية دخول الإسلاميين المعترك السياسي وفقاً للضوابط الشرعية، مفنداً «شبه» القائلين بضرورة ترك السياسة بحجة أن الداخل فيها لا يسلم من بعض المخالفات الشرعية، كالانشغال عن الدعوة، وإن كنت أتفق مع الرأي القائل بأن من يرغب في العمل السياسي فعليه أن ينزل من على المنبر الديني الدعوي ثم يرتدي العباءة التي يجد نفسه فيها، فلا يزايد دينياً لخدمة أغراضه الدنيوية، سياسية كانت أم غير سياسية، حتى لا نقع في مناورات انفعالية تمنع من إقامة نظريات منهجية للمواضيع المستجدة المتسارعة، تحول دون التوازن المفروض ما بين الإسلام والفكر المعاصر. وبالحديث عن نشأة ما عُرف بالحركات الدينية الإصلاحية المعاصرة فقد كان ظهورها في أواخر عقد عشرينات القرن الماضي كما أسلفنا ذكره في مقال سابق، حين بدأ التيار الأول منها بحركة الإمام محمد بن عبدالوهاب، واستمر مع السنوسية والحركات الإصلاحية الأخرى عربياً وإسلامياً، إلى أن حطّ جمال الدين الأفغاني رحاله في مصر فاستقطب شباباً بثهم من أفكاره الجريئة ما فجّر فيهم ينبوع الإصلاح، وكان على رأسهم الشيخان: محمد عبده وعبدالله النديم. وصفوة القول، ان الإصلاح الديني قد بدأ بحركة الشيخ ابن عبدالوهاب، ولكنه انتهى إلى دعوات إصلاحية تختلف كثيراً عمّا رمت إليه دعوته التي تكونت نتيجة رد فعل تجاه الأزمة الروحية التي كان يعيشها مجتمع الجزيرة العربية آنذاك، وكانت بعيدة في طابعها الديني الإصلاحي عن أطماع اللعبة السياسية المعروفة حتى مع تحالفها مع الإمام محمد بن سعود أمير السياسية، لدرجة أن تسمية «الوهابية» التي تعودنا على ترديدها قد اعتبرت من قبل البعض من ضمن التسميات المسيّسة المُغرضِة، فكان أن عارضها أحدهم وبشدة، كما تجلى واضحاً في كتاب «الموحدون الجُدد» بعلة أنها تسمية أطلقها خصوم الحركة على دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب من غير أبناء المنطقة، فترسّخت في كتابات المستشرقين، مع أن أتباع الشيخ أنفسهم كانوا يسمون ب«الموحدين» أو التوحيديين، أو المسلمين فقط، ولم يسموا باسم الوهابيين إطلاقاً. كلمة أخيرة: مسألة إحياء التراث الديني ليست بمستجدة على تاريخنا الحديث، فقد وجدت منذ أيام الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ما جدّ في موضوعها هو انتهاج العنف الدموي المادي أسلوباً لتحقيق الأغراض بشكل لم يعبأ بانتهاك حرمات الله، هذا إذا افترضنا سلفاً أن الحكاية هي غلو متطرّف أدى إلى انحراف في التطبيق، أمّا إن كان الأمر يتعلق بالتسييس الديني فنحن عندئذ أمام ظاهرة لجوء تنظيمات متطرفة إلى استخدام الإرهاب «فكري وعملي» كوسيلة للوصول إلى أهدافها المغلّفة بالدين.