إن قانون السببية من السنن التي وضعها الله تعالى في هذه الأرض، وترك الأخذ بالأسباب عند أهل العلم منقصة، وقد قيل: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، فالشرع أمر بالأخذ بها، والعقل الصحيح يثبت اعتبارها، لكن من يعتمد عليها وينسى مسببها، ويظن سبباً ما يستقل بالتأثير فقد أشرك بالله العلي القدير. وجماع قول أهل السنة فيها يدور على ثلاثة أصول: أحدها: أن لا يجعل المرء سبباً إلا ما ثبت أنه سبب شرعاً أو قدراً بالتجربة أو العقل الصحيح. ثانيها: أن لا يعتمد العبد عليها، بل يعتمد على مسببها ومقدرها، مع قيامه بالمشروع منها، وحرصه على النافع منها. ثالثها: أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره لا خروج لها عنه، والله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء؛ إن شاء أبقى سببيتها جارية على مقتضى حكمته ليقوم بها العباد ويعرفوا بذلك تمام حكمته حيث ربط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها، وإن شاء غيرها كيف يشاء لئلا يعتمد عليها العباد وليعلموا كمال قدرته، وأن التصرف المطلق والإرادة المطلقة لله وحده، فهذا هو الواجب على العبد في نظره وعمله بجميع الأسباب. فالاعتماد عليها اغترار، والأخذ بها لازم، يقتضيه الحزم، قال ابن الزيات الوزير: لا يتصوّر لك التواني بصورة التوكل فتخلد إليه وتضيع الحزم، فإن الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وآله أمر بذلك؛ قال الله عز وجل: (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله)، فجعل التوكل بعد العزم، والمشورة قبله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الناقة: "اعقلها وتوكّل" إه. وهذا خبر مشهور من حديث أنس بن مالك رواه الترمذي بسنده وفيه قال الراوي:" سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: اعقلها وتوكل. قال عمرو بن علي: قال يحيى: وهذا عندي حديث منكر. قال أبو عيسى: وهذا حديث غريب من حديث أنس، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عمرو بن أمية الضمري، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا" [سنن الترمذي 4/668 (2517)]، وقد حسنه بعض أهل العلم من حديث أنس كالألباني وأياً ما كان، فقد صححه ابن حبان وحسنه غيره لكن من حديث عمرو بن أمية الضمري . قال بعضهم: فما وجه التوكل بعد العقل؟ قيل: لأنه يعقلها ولم يستغن عن حفظها، فقد يحل العقال من أراد وينجو؛ وإنما أراد عليه السلام أن لا تبقى على صاحبها بقيةٌ من أسباب النّدم ولا حال تبعث اللائمة عليه، ولكن يبلي العذر، وينتظر القدر، ويتبع الأثر والخبر. فالتوكل مطلوب وبذل الأسباب مطلوب فمن رام أمراً من الأمور ليس الطريق في تحصيله أنه يغلق بابه عليه ويفوض أمره لربه، وينتظر حصول ذلك الأمر، بل الطريق أن يشرع في طلبه على الوجه الذي شرعه له فيه، وأسوته في ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم. فقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين في بعض مغازيه، واتخذ خندقاً حول المدينة حين تحزبت عليه الأحزاب يحترس به من العدو، وأقام الرماة يوم أحد ليحفظوا الأمة من جيش المشركين، وكان يلبس لأْمَة الحرب، ويهيئ الجيوش ويأمرهم وينهاهم لما فيه من مصالحهم، ..وتداوى وأمر بالمداواة، وكل ذلك من جملة أخذه عليه الصلاة والسلام بالأسباب. والداعية إلى الله تعالى من أولى الناس أخذاً بالأسباب، وفي هذه العجالة تنبيهات أوجهها لإخوتي الدعاة فيما يتعلق بالأخذ بالأسباب، أسردها في ما يلي: أولاً: على الداعية أن يأخذ بسنن الله الكونية وأن يعمل بالأسباب وأن يلتزمها في كافة شأنه وهو بذلك يشارك سائر عقلاء الناس، لكن قربه من الشريعة التي تربي المؤمن على ذلك أبلغ في تكليفه به والتزامه له.. ويقبح به أن يرى متواكلاً يسير سبهللاً يخالف دينه ويخالف العقل ثم يُقال: داعية! فذلك السلوك المشين مما يزهد الناس في دعوته وإن كانت حقاً. ثانياً: الأعمال الدعوية يجب أن تبذل فيها الأسباب الممكنة وألا تترك تسير بالبركة كما يقولون، فكما أن صاحب التجارة يحرص على أسباب ربح تجارته وعدم كسادها فالداعية أحق بالحرص على رواج دعوته والنأي عن أسباب كسادها، وقد يجب عليه ذلك ويتعين فالشروع في الدعوة مما قد يعينها، وبذل الأسباب والجهود في إنجاحها من جملة القيام بالواجب، والتفريط فيها من جملة التفريط بالواجب، وقبيح بالمرء أن يحرص على كسبه الدنيوي، ثم يفرط في دين الله. ثالثاً: يجب أن لا يغلو الداعية في الأسباب، وأن لا يتكل عليها، وأن يعلم أن لها مسبباً يقدر ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأن عليه بذل ما أطاق, والسعي بقدر جهده، والله بعد ذلك ييسر ويبارك في القليل الموافق لشرعه، فلا ييأس ولا يحزن ولا يضيق صدره بالواقع من حوله إذا بذل وسعه دون تجاوز لحدود الشرع أو تنازل عنه. رابعاً: على الداعية أن لا يغفل عن الأسباب المعنوية بل يعنى بها عناية خاصة فهي سر نجاحٍ وسبب فلاحٍ محقق مجرب، والدعاة من أجدر الناس عناية بالأسباب المعنوية.. من الحرص على أسباب تقوية الإيمان، والذكر والاستغفار، وقراءة القرآن، والدعاء والصدقة وتنمية العبادات القلبية، بل والتفاؤل والتشجيع والتحفيز، وذلك على النطاق الفردي وعلى نطاق المؤسسة الدعوية، وفرق بين العمل في بيئة تشجع وتحفز، وتبث التفاؤل، وتعين على الذكر ولا سيما في مواسمه، وبين العمل في مؤسسة تقرع وتؤنب وتخذل وتخوف وتضيق على العاملين في مواسم الذكر والطاعة بحجة الانشغال بشؤون العامة.. فالأولى حري أن يبارك الله في جهود العاملين بها. وكذلك الشأن في عمل المؤسسة ينبغي أن لا تغفل البذل المعنوي إذا عدمت البذل المادي المحسوس تجاه بعض الأحداث والنوازل، وقد قيل: لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال! خامساً: كما أنكر عمر رضي الله عنه على الحجاج المتواكلين؛ الذين قدموا للفرض بغير الزاد الذي أمر الله به ثم زعموا أنهم المتوكلون! وأنكر رضي الله عنه على بعض أجلة الصحابة ترك الأخذ بالأسباب بالفرار من الطاعون، فكذلك ينبغي أن ننكر على بعضنا، وأن يتواصى الدعاة بالحق في شأن الأسباب، فإذا رأينا من يمشي سبهللاً في دعوته، ويترك الأخذ بأسباب ظهورها فعلينا أن نوجهه ونفس التوجيه من جملة الأخذ بالأسباب في شأن الدعوة. هذا والله أسأل أن يرزقنا الفقه في الدين والبصيرة في الدعوة. والحمد لله أولاً وأخيراً.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.