معاذ الحاج مما لاشك فيه أن الفقر من أخطر الآفات التي تصيب أنساق المجتمعات البشرية وتؤثر سلباً على أصعدتها المختلفة، فلا تخلو مشكلة بسيطة ولا معضلة معقّدة إلّا وكان للفقر فيها نصيب قلّ أو كثُر، بَيْدَ أنّ أخطر نتائج الفقر تكمن في تداعياته على البنية المعرفية! في هذا السياق أعجبني ما طرحه المحاضر بمعهد قرطبة للدراسات العربية د. هاني إسماعيل محمد، حيث يرى أنّ الخطورة الحقيقية تكمن عندما يعبث الفقر بالعقيدة الإيمانية للفقير، إذ قد يصيبه الشك والريبة في حكمة الخالق سبحانه وتعالى حينما يرى الغني المُترف القاعد المتبطل تتدفق عليه الأموال من كل حدب وصوب ثم يرى نفسه مع جدّه وعمله لا يجد ما يسدّ به رمَقه، كما قد يعتقد الفقير أنّ الفقر الواقع عليه ما هو إلا قضاء الله وقدره الذي كتب عليه منذ الأزل، وليس ثمة انفكاك عنه، فلا وسيلة تُجدي للخلاص منه، ولا عمل ينجي من براثنه، ومن ثمَّ فلا داعي لمجرد المحاولة أو التفكير في ذلك. إذن لا غرابة أن يتخلى ذلك الفقير الذي اختلّت لديه البنية المعرفية، وتزعزعت عنه العقيدة الإيمانية تحت وطأة الفقر وتداعياته عن معايير القيم والأخلاق، (فإنّ الفقير المحروم كثيراً ما يدفعه بؤسه وحرمانه، وخاصة إذا كان إلى جواره الطاعمون الناعمون، إلى سلوك لا ترضاه الفضيلة والخلق الكريم، ولهذا قالوا: صوت المعدة أقوى من صوت الضمير. وشرّ من هذا أن يؤدي ذلك الحرمان إلى التشكيك في القيم الأخلاقية نفسها، وعدالة مقاييسها). لم يغِب عن الإسلام ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام وهو وحي يوحى إليه تلك الآثار السلبية على العقيدة الدينية، وما ينبثق عنها من معايير ومفاهيم تُعلي من شأن الأنا والذات، وتحط من القيم الإنسانية والأخلاق الإسلامية، حتى نُسبَ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه «كاد الفقر أن يكون كفراً»، هذا الحديث ضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة، كما روي عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- أنه قال: (إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك)، وفي لفتة إيمانية يستعيذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها من الفقر، ليحذّر من مدى ضرره الجلي، وخطره الخفي، فيقول: «إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أُظلم»، صححه الألباني في صحيح أبي داوود، ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر»، صححه الألباني في صحيح النسائي، بينما علي -رضي الله عنه- يعلنها حرباً ضروساً على الفقر فيقول مقولته الشهيرة: «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، وإذا كان الفقر يحاول أن يبثَّ سمومه في نفوس الفقراء الضعفاء، فإنّ الإيمان له أثره الفعّال في استئصال شأفة الفقر والقضاء على أدرانه، ولا يكون ذلك إلا بعد تصحيح إشكالية فهم الفقير للقضاء والقدر، حيث إن (تصحيح عقيدة الفقير بشأن القضاء والقدر له توظيفاته الاقتصادية المتعددة. من ذلك: أنّه يدفع الفقير للعمل ليقضي على فقره ويدفعه لحب المال فيسعى لجمعه وامتلاكه، ويدفعه لاعتبار العنصر المادي في الحياة فلا يهمله)، وقد أزال عمر -رضي الله عنه- هذا اللبس (إذ مرّ بقوم من القراء فرآهم جلوساً، قد نكّسوا رؤوسهم، فقال: من هؤلاء؟ فقيل: هم المتوكلون. فقال: كلا، بل المتآكلون يأكلون أموال الناس، ألا أنبئكم من المتوكل؟ فقيل: نعم. قال: هو الذي يلقي الحبَّ في الأرض ثم يتوكل على ربه عز وجل)، وقد أمر الله تعالى مريم عليها السلام بهزّ النخلة فقال عز وجل: (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً)، وهو قادر على أن يرزقها من غير هزّ منها، وإنما أمرها بذلك ليكون بياناً للعباد: أنّه ينبغي لهم ألا يدعوا اكتساب السبب وإن كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى هو الرزاق. ولقد اختزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم القضية حين قال له رجل: يا رسول الله، أعقلها وأتوكل أو أُطلقها وأتوكل؟ قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «أعقلها وتوكل»، ليعلم من يزعم أن حقيقة التوكل في تركه الكسب والسبب أمر مخالف للشرع الحنيف، وأن حقيقة التوكل هي صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها)، وما انتشر الفقر الآن في العالم الإسلامي إلا لغياب هذه العقيدة وضعف الوازع الديني، قال علي رضي الله عنه: (إن الله فرض على أغنياء المسلمين بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإنّ الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً) رواه المنذري في الترغيب، إذن لابد لمواجهة الفقر من بيئة عقدية صحيحة يغمرها اليقين بالله وتفيض بالإيمان به وجميل التوكل عليه، تبدأ بتصحيح عقيدة الفقير نفسه مروراً بالغني ليتحمل كل منهما مسؤولياته وتبعاته التي تنبع ذاتياً من عقيدة إيمانية واعية.