ستطلق تركيا قناتها الفضائية العربية قريباً، وستشكل تحدياً إعلامياً كبيراً للقنوات الفضائية العربية الشهيرة. هكذا جاء مضمون المقال المنشور في «الحياة» بتاريخ 22 كانون الأول (ديسمبر) الجاري للكاتب التركي هوشنك أوسي. الخبر على هذا النحو تمكن رؤيته من زاويتين، الأولى إعلامية بحتة، والثانية تتعلق بالديناميكية التي باتت تميز سياسة تركيا الخارجية تجاه العالم العربي. إعلامياً، فإن تركيا ليست وحدها التي تهتم بإطلاق قناة فضائية باللغة العربية، فقد سبقتها قنوات كثيرة ك «بي بي سي» البريطانية، و «روسيا اليوم»، و «العالم» الإيرانية و «الحرة» الأميركية و «دويتشه فيلا» الألمانية، فضلاً عن قنوات أخرى من جنسيات مختلفة. السباق هنا هو على العقل العربي والوجدان العربي لا شك في ذلك، وكلاهما بوابة مهمة لترسيخ الانطباعات والأدوار والمصالح. وكلاهما أيضاً بوابة للتلاعب السياسي والدعائي، وفي هذا الجانب يمكن طرح وجهة نظر بديلة أو تصحيح صورة عن الذات أو تقديم هذه الذات في شكل أكثر بريقاً وجاذبية. تركيا ليست بحاجة إلى جاذبية مصطنعة لدى الرأي العام العربي، فقد حققت في هذا المضمار مكاسب بارزة على الأقل في العامين الماضيين تحديداً. ومن يراجع الأخبار في الأيام الثلاثة الماضية وحسب سيجد بالتأكيد خبراً مهماً عن تركيا يتعلق بزيارة لمسؤول تركي كبير لبلد عربي، أو توقيع أكثر من اتفاقية للتعاون مع بلد عربي، أو تصريح تركي مهم عن شأن عربي، أو بيانات إحصائية عن تطور العلاقات التجارية بين تركيا وأكثر من بلد عربي، وكلها تؤكد تنامي هذه العلاقات ثلاثة أضعاف أو ضعفين على الأقل مقارنة بما كانت عليه قبل أعوام محدودة. وإلى جانب كل هذا مقالات وتحليلات فنية في أكثر من مطبوعة لمسلسل درامي تركي أو أكثر مدبلج إلى العربية تذاع على مدار الساعة في الكثير من القنوات الفضائية العربية، وغالبيتها تجد رواجاً كبيراً في مستوى المشاهدة من العرب الذين بات قطاع كبير منهم يجيد ملاحقة البرامج والمسلسلات طوال الليل ولا شيء آخر. الحديث عن الحضور التركي عربياً لم يعد جديداً، وتحليل ذلك من منظوره التركي أو منظوره العربي بات مكرراً وقوامه أن هناك حزباً يقود حكومة تركيا مدعوماً من قاعدة شعبية عريضة تحبذ لأسباب تاريخية ومصلحية ومعنوية ودينية أن تتجه بلادهم ناحية الشرق مستفيدة من حالة النظام العربي الشديد السيولة، والذي يسمح بتغلغلات من هذا الطرف الإقليمي أو ذاك. وفي مجال المقارنة لا أكثر يجد مؤيدو الديناميكية التركية أنها تستند إلى قواعد وآليات الشراكة والتعاون لا يمكن دحضها، وإلى عناصر القوة الناعمة التي تسعد الشعوب ولا تشقيها كما هو الحال مثلاً في الحركية الإيرانية التي تأتي غالباً ومعها الانقسام والتوتر المذهبي والتباين السياسي والخلل الأمني. السؤال الأبرز هنا يتعلق بكيف يرى الرأي العام العربي هذا الحضور التركي في التجارة والفن والاقتصاد والسياسة، والبعض يضيف أيضاً في الإصلاح السياسي وتعميق الديموقراطية واستيعاب التسييس الديني وفقاً لخبرة حزب العدالة والتنمية من جانب وحركات التصوف الإسلامي المساندة للحزب من جانب آخر. وهو سؤال يمكن الإجابة عنه انطباعاً أو علماً. وفي سياق الانطباع العام، هناك قبول عربي عام للحركية التركية ربما مع اختلاف في درجة هذا القبول بين بلد وآخر. أما في مجال العلم، فثمة إجابات مختلفة تقتضيها أولاً دراسات رأي عام تلتزم المناهج المعروفة في هذا الصدد. وإذا كان العرب لا يجيدون هذه الوسيلة لقياس توجهات الرأي العام في بلدانهم إزاء قضايا وإشكاليات مختلفة، فهناك من يجيد تلك الآلية ويهتم بها ويحلل ما فيها من نتائج. من بين الإجابات العلمية عن رؤية العرب للحركية التركية هذه الدراسة الميدانية بعنوان «إدراك تركيا في الشرق الاوسط»، والتي أجرتها شركة «كي آ للأبحاث» (KA) لمصلحة مؤسسة الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في اسطنبول، والتي أعلنت نتائجها للمرة الأولى في ورشة عمل نظمت لمدة يوم كامل في اسطنبول وشارك فيها عدد من الخبراء العرب المتابعين للشأن التركي والنظام العربي، إضافة إلى نظراء أتراك. قبل أن نعرج على بعض نتائج هذه الدراسة المهمة، نشير إلى ملاحظتين نحسب أنهما ضروريتان؛ الأولى أن الجهات الداعمة لهذه الدراسة جاءت من منابع ودول مختلفة، وهي: مكتب الكومنولث والشؤون الخارجية للمملكة المتحدة، ومؤسسة «فريدريش ايبرت» الألمانية مكتب اسطنبول، والمنظمة العربية للديموقراطية، ومؤسسة المجتمع المفتوح، والهيئة العليا الاستشارية لمؤسسة الدراسات الاجتماعية والاقتصادية. الثانية أن الدراسة شملت سبع دول عربية وحسب وهي مصر والأردن وفلسطين ولبنان والسعودية والعراق وسورية. هاتان الملاحظتان تقولان إن هناك جهات دولية عدة تهتم الآن بما تفعله تركيا في المنطقة العربية وبدورها المتنامي، وأنها مستعدة لتمويل أبحاث ودراسات مختلفة عن مردود الحركية التركية الجديدة إقليمياً ومعرفة مدى القبول الشعبي وبما يؤشر الى اختيارات مستقبلية محتملة سواء لتركيا أو للعالم العربي. أما نقطة التركيز التركية، فهي على أبرز بلدان المشرق العربي، ولذا يغيب المغرب العربي كله، ومن ثم يصبح عنوان الدراسة غير متسق مع مضمونها، ولكنها على رغم بعض القيود المنهجية تقدم اتجاهات عامة مفيدة لصانعي القرار والمحللين. وبعض نتائج الدراسة توضح ذلك، فإجمالى نسبة الذين ينظرون الى تركيا كدولة مفضلة جداً 75 في المئة، ولا يعلوها إلا بلدان وهما مصر والسعودية بنسبة 80 في المئة. وعن مدى تأييد أن تلعب تركيا دوراً كوسيط لحل الصراع العربي - الإسرائيلي جاءت نسبة التأييد الإجمالية في البلدان السبعة 79 في المئة، وكانت أعلى النسب في سورية بإجمالي 86 في المئة، وفي فلسطينالمحتلة بإجمالي 89 في المئة. وتكرر الأمر في تأييد أن تلعب تركيا دوراً أكبر في العالم العربي، إذ وصلت النسبة إلى 77 في المئة، وفي أن لتركيا تأثيراً إيجابياً في السلام في العالم العربي بنسبة 76 في المئة. وحول أن تكون تركيا نموذجاً للعالم العربي أيد 61 في المئة ذلك، جاء أكثرهم من سورية بنسبة 72 في المئة، وأقلهم في مصر بنسبة 58 في المئة. أما رؤية أن تركيا باتت أكثر نفوذاً الآن في العالم العربي، فقد أيد 71 في المئة في البلدان السبعة، أكثرهم بنسبة 90 في المئة في فلسطين وأقلهم بنسبة 62 في المئة في العراق. أما دعم أن تكون تركيا المسلمة عضواً في الاتحاد الأوروبي فقد أيد 57 في المئة، جاء أكثرهم في لبنان بنسبة 72 في المئة وأقلهم في السعودية بنسبة 50 في المئة. وأخيراً يعتقد 64 في المئة أن التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي سيكون له تأثير إيجابي في قضايا العالم العربي، جاء أكثرهم من لبنان بنسبة 72 في المئة، وأقلهم من العراق بنسبة 59 في المئة. إذاً، فالصورة العامة لتركيا لدى الرأي العام في البلدان العربية السبعة هي صورة إيجابية بامتياز، وتعني أن هناك قبولاً لهذه الحركية التركية الجديدة، بل هناك من يعول عليها لحل أبرز القضايا، لا سيما الصراع العربي - الإسرائيلي. مجمل هذه الأسباب ينحو إلى تقديم تحليل سياسي منفعي استراتيجي، ويغفل جزئياً المعطيات التركية نفسها، ورغبة قيادتها الأكثر انفتاحاً على الشرق العربي المسلم في تحقيق مكاسب اقتصادية من الأسواق العربية، وجذب المزيد من أموالها لغرض الاستثمار في الداخل التركي، والبحث عن بديل في حال تعذرت العضوية الكاملة لتركيا في الاتحاد الأوروبي، وهو الاحتمال الارجح لعقدين قادمين على الأقل، فضلاً عن نجاح تركيا في توظيف معظم عناصر قوتها الثقافية والفنية وحركية منظمات المجتمع المدني في اختراق الوجدان العربي. بيد أن فكرة البطولة والقيادة الإقليمية كأحد عناصر نجاح تركيا في اختراق الوجدان العربي والإسلامي لم تكون محلاً للاتفاق لتفسير القبول العربي للدور التركي، فهو إن حصل شيء من الإقدام والجرأة في رفض العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة، كما حدث في مؤتمر دافوس في شباط (فبراير) 2009 حين انتفض اردوغان على تقييد حقه في الرد على أكاذيب شيمون بيريز، فإن المردود العملي للسياسة التركية تجاه الصراع العربي، وأبرز مفرداته مثل رفع الحصار عن غزة وتحقيق المصالحة الفلسطينية وإتمام مهمة الوساطة بين سورية وإسرائيل تثبت أن النموذج التركي هنا مُقيد شأنه شأن الكثير من الأدوار الإقليمية والدولية. قيود النموذج التركي تمتد أيضاً إلى عناصر عدة، أجملتها موراي ميرت - الكاتبة التركية المناصرة للديموقراطية العلمانية بحسب وصفها لنفسها - في تحول تركيا من موقف متطرف إلى آخر متطرف، ومن تقليل الذات إلى تعظيم الذات، ومن الخوف من مواجهة تعقيدات المنطقة العربية إلى الجرأة في البحث عن حلول لهذه التعقيدات. أما عن تعقيدات الداخل فهناك الكثير، بداية من حقوق الأقليات وحالة الاكراد الأتراك وإثارة مشاعر معاداة السامية والتوتر مع إسرائيل. وطبقاً لموراي، فهذا خطر ولا ينتج نموذجاً متكاملاً. ومن هنا كان تعجبها وغيرها من النظراء الأتراك من حالة الإعجاب العربي المتنامية بالحركية التركية الجديدة التي قد تأتي بعكس ما تريد.