د. عبد الحميد الأنصاري - نقلا عن "الجريدة" الكويتية من المفارقات المدهشة في دنيا العرب وحياتهم السياسية والإعلامية أنه في أعقاب الاستفتاء الذي قال فيه 57% من الشعب السويسري: «لا لبناء مآذن جديدة في البلاد»، رأينا معظم الرموز والقيادات الإسلامية في سويسرا وفي خارجها من مختلف الدول العربية والإسلامية يتجهون نحو التهدئة، وضبط النفس، وتحكيم العقل وعدم الانقياد وراء ردود الأفعال الانفعالية والعشوائية، التي قد تجلب الضرر للمسلمين، وتشوه صورة الإسلام، ويتخذها اليمين الأوروبي المتطرف ذريعة لمزيد من الإساءات للإسلام، والتضييق على حريات المسلمين في الغرب. فوجدنا رئيس الهيئة الإسلامية العالمية الأستاذ يوسف جاسم الحجي يعرب عن قلقه إزاء إقدام سويسرا على حظر المآذن، ويعتبره تعدياً على حقوق الإنسان وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وتجاهلاً للحقوق الدينية لأكثر من 300 ألف مسلم يعيشون في سويسرا، لكنه يحرص في النهاية على تحكيم العقل ودعوة منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية وجميع المنظمات المعنية بحقوق الإنسان إلى اتخاذ خطوات (حكيمة) لمعالجة هذا الموقف. كما وجدنا ممثلي الجالية الإسلامية في سويسرا يحرصون على تهدئة المسلمين واحترام رأي الأغلبية وتوضيح أن المسلمين ليسوا مستهدفين لا من السويسريين ولا من حكومتهم، بل من حزب معاد للإسلام، هذه المواقف الجديدة تعد تطوراً عقلانياً ناضجاً في العلاقة مع الآخر، وهي تخالف المواقف السابقة التي كانت تتمثل في تعبئة الجماهير وتحريضها على المسيرات والمقاطعة كما حصل بالنسبة للرسوم المسيئة في الدنمارك والفيلم المسيء في هولندا. لكن المفارقة المذهلة هذه المرة أنه بينما يحرص المشايخ والرموز الدينية على التهدئة ومعالجة الأمور بالحكمة نجد الدكتور عبدالعزيز التويجري، المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) يصعّد ويلوّح بمقاطعة إسلامية شاملة: تجارياً وسياحياً، كما يطالب بسحب الأرصدة العربية والإسلامية من البنوك السويسرية، وذلك إذا أصرت الحكومة السويسرية على تنفيذ قرار حظر المآذن، ويقول الدكتور التويجري: «إن المحاولات ستبذل لإقناع سويسرا بالطرق الدبلوماسية بعدم قانونية استفتائها، وبأن ما قامت به يمس بحقوق المسلمين الذين لهم الحق كل الحق بأن يؤدوا عباداتهم في مساجدهم طبقاً للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، فإذا لم تنجح تلك المحاولات وأصرت الحكومة على تنفيذ القرار فهذا قد يدفع الإيسيسكو إلى حث دول العالم الإسلامي على مقاطعة شاملة لسويسرا». لا أحد يجادل في منطقية وعدالة إقناع الحكومة السويسرية بالعدول عن القرار، ولكن التهديد والتلويح بالمقاطعة من قبل من كان يعد داعية للحوار والتحالف الحضاري، الذي طالما أثرى الساحة الثقافية بطروحاته القيمة حول تدعيم جسور التعاون والتحالف مع الآخر الحضاري، أراه أمراً لا محل له ويحق لنا أن نطرح عدة تساؤلات: لماذا يلجأ مدير عام الإيسيسكو إلى التصعيد بينما يؤثر المشايخ والقيادت الإسلامية التهدئة؟ فمنع المآذن لا شك أنه إساءة تستفز مشاعر المسلمين كافة لكنها دون الإساءات السابقة فهل تستحق هذه الإساءة أن تصل إلى درجة المقاطعة؟ وهل لدى المدير العام للإيسيسكو الثقة والقناعة من أن دعوته ستحظى بالقبول؟ وماذا لو رفضت تلك الدول دعوته؟ وهل هو مفوض من قبلها؟! وإضافة إلى ذلك فإننا لم نعهد مثل هذه الحماسة من قبل الدكتور التويجري في المرات السابقة، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل حول دوافعه هذه المرة؟ هذه التساؤلات وغيرها توجب علينا توضيح بعض الأمور الملتبسة لتأكيد أن مبررات الدعوة للمقاطعة غير قائمة على أساس صحيح هذه المرة: أولاً: مبادرة حظر المآذن لم تكن مطروحة من قبل الحكومة السويسرية بل كانت مواقفها دائماً ضدها، إذ كانت تحاربها باستمرار على امتداد السنتين الأخيرتين، وحرص المسؤولون الرسميون على تكرار إعلان مواقفهم الرافضة لمنع المآذن، وذلك في مناسبات عديدة، بل إن الرئيس السويسري بنفسه أطل على المواطنين عبر الشاشة الفضية ليناشدهم عدم الموافقة على منع المآذن، فالحكومة السويسرية إذن كانت متضامنة مع حق المسلمين، وهي لا تتحمل مسؤولية المبادرة حتى ندعو لمقاطعتها. ثانياً: كل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والهيئات الدينية: المسيحية واليهودية وكذلك البرلمان السويسري أكدت تضامنها مع المسلمين، وأعلنت مواقفها الرافضة للمبادرة، بل إنها اعتبرت منع المآذن تمييزاً يناقض الدستور وتقاليد المجتمع السويسري. ثالثاً: يجب تمييز المواقف عن بعضها وفرز المسؤوليات، فمبادرة منع المآذن يتحمل وزرها حزب يميني متطرف، وهو لا يعادي المسلمين فحسب، بل كل الجنسيات الأخرى، استطاع هذا الحزب أن يخترق صف المجتمع السويسري المتسامح، فتلاعب بمشاعر المواطنين عبر تخويفهم من (الأسلمة) واستغل مقولة منسوبة للرئيس التركي أردوغان يقول فيها: (المساجد ثكناتنا والقباب خوذاتنا والمآذن حرابنا والمؤمنون جنودنا) لذلك عندما نقاطع الشعب السويسري فإننا نخذم هؤلاء المتطرفين بالدرجة الأولى، إذ يكسبون المزيد من الشعبية ويصلون إلى البرلمانات الأوروبية بعد أن كانوا مهمشين. رابعاً: يجب ادخار (سلاح المقاطعة) للقضايا الكبرى، وإذا كنا سنفزع إلى هذا السلاح عند كل إساءة كبيرة أو صغيرة فإنه سيفقد جدواه وفعاليتة، هب أننا اليوم قاطعنا سويسرا من أجل منع المآذن فماذا سيبقى لنا إذا منعوا المساجد مثلاً؟! ويكفي أن نعلم أنه في استفتاء أخير أجرته في فرنسا صحيفة الفيغارو أظهر أن نسبة الفرنسيين المعارضين لبناء المساجد وليس فقط بناء المآذن زادت من 22% عام 2001 بعد الهجوم على نيويورك وواشنطن إلى 41% اليوم، وهي نسبة خطيرة تدعو إلى القلق. خامساً: علينا الحذر من اتخاذ قرارات سياسية خطيرة ضد الشعوب والحكومات الأخرى لمجرد استفتاء شعبي أفرز نتائج ليست في مصلحتنا، وعلينا أن ندرك ونتفهم أن تلك النتائج إنما هي وليدة ردود فعل معينة أو مخاوف معينة ولا تمثل موقفاً عاماً، ولا تعبر عن حالة عامة للشعب، وأنا زعيم بأنه لو أجرينا اليوم استفتاء شعبياً عاماً في أي بلد عربي أو مسلم على مسألة بناء الكنائس لصوتت أغلبية 99% ضد بناء الكنائس وليس 57% كما في الحالة السويسرية، وذلك نتيجة لمشاعر النفسية الغاضبة. فمن المجازفة أن نحكم على الشعوب الأخرى بناءً على نتائج الاستفتاءات التي تتحكم بها ردود الأفعال الوقتية، ولعلنا نتذكر أنه في قطر وقبل سنوات عندما أرادت القيادة السياسية السماح ببناء أول كنيسة، كتب بعضهم مستنكراً: كيف تلوث أرض قطر الطاهرة بالكنائس؟! سادساً: السويسريون أنفسهم غاضبون من نتائج الاستفتاء ولا يدخرون وسعاً في إعلان تضامنهم مع المسلمين، وفي استنكارهم لتلك النتائج، ونقلت الأخبار أن سويسرياً غير مسلم بنى مئذنة فوق مدخنة مؤسسته في لوزان احتجاجاً على النتائج، وافترش 200 شاب سويسري ساحة بمدينة زيورخ وصنعوا 13 جامعاً من الورق المقوى تعبيراً عن تضامنهم مع المسلمين، وكتب أحدهم في موقعه الإلكتروني إنني أشعر بالخجل من هذه النتيجة، فتضامن معه 60 ألفاً في موقعه في اليوم التالي، والأساقفة السويسريون هم أنفسهم قالوا إن هذه النتائج تشكل ضربة قاسية لحرية المعتقد ولتلاحم المجتمع السويسري. سابعاً: السويسريون أنفسهم هم الذين يبادرون اليوم بالطعن في نتيجة الاستفتاء أمام المحكمة الدستورية السويسرية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، كونها تشكل انتهاكاً للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. ثامناً: هناك فترة 9 أشهر حتى تصبح نتيجة الاستفتاء قانوناً ملزماً، وهي فترة كافية ويمكن استغلالها لمصلحة المسلمين إذا وحدت الجالية الإسلامية صفوفها، ونسقت جهودها مع الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والهئيات الدينية المتضامنة معها، وجمعت 100 ألف توقيع لإعادة طرح الاستفتاء ونقض المبادرة السابقة. تاسعاً: إن معركتنا يجب أن تكون مع اليمين المتطرف لا مع الشعب السويسري ولا حكومته، والأسلوب الأمثل تغيير الميزان الانتخابي لمصلحتنا هو كسب قلوب وعقول السويسريين، خصوصاً هؤلاء المضللين المخدوعين الذين انساقوا وراء تخويفات اليمين المتطرف، ونحن إذا تحلينا بالحكمة وأحسنا التصرف فسنكسب هؤلاء إلى صفنا، وستصبح نسبة 43% التي وقفت في صفنا أغلبية، لاسيما أن الرأي العام الأوروبي ضد المبادرة، ومن هنا يتعين علينا عدم التلويح أو التهديد بسلاح المقاطعة في هذه الفترة.