نحن بحاجة إلى إعادة الجو الرومانسي لحياتنا بدلا من هذا التوتر المعيشي الذي يقودنا لحتفنا سريعا ومن بقي عاش تأزمات الاكتئاب والانشطار والتجمد. فبعد أن كان الفن (الغنائي والسينمائي) يلعب الدور الأساس في تغذية أرواحنا بالأجواء الوجدانية الشفافة، تحولا هذان الفنان إلى أنبوبين يضخان ثاني أكسيد الكربون ومعهما الابتذال والمخدرات والإرهاب والحقد والكره وقمائم الواقع. ولم يعد الهروب إلى الغناء مجديا في زمن (أحسن مادام انك زعلت أحسن عنك مارضيت) و (انا ما فيني أحبك أكثر) فزمن (قولوا لعين الشمس ما تحماشي) أو (أقلك ايه عن الشوق) أو (أنا الحبيب المطاوع) أو (حاول تفتكرني) أو (عودت عيني) أو (قالوا هان الود عليه) أو (ضناني الشوق).. غدا الزمن جافا كأعواد الحطب المقذوفة والمنسية في آن. وعندما يظهر عاشق في هذا الزمان يكون فاكهة ظهرت في غير أوانها لتذكرنا بزمن الثمار الجميلة، فهذا الزوج (الذي نشرت «عكاظ» قصته) والذي علق لافتة قماشية على جسر للمشاة في طريق كورنيش الخبر طالبا من زوجته الصفح عنه لأنه يحبها ولا يستطيع العيش بدونها. هذا العاشق يذكرنا بالزمن الجميل في زمن الجفاف. فمن ذا يعشق كل هذا العشق وتهجره زوجته أو حبيبته إلا إن كانت مشبعة باستنشاق ثاني أكسيد الكربون، وتردي أذنها بأغاني شعبان عبدالرحيم ومنهم على خط الغناء الميت. وهذا الموقف للزوج العاشق هو موقف شبيه جذب الروائي الأمريكي (اريك سيغال) لتأليف رواية (قصة حب)، فعندما كان يسير في ممر داخل الجامعة التي يدرس بها، شاهد شابين (فتى وفتاة) يتناجيان برومانسية عالية.هذا المشهد أعاده إلى زمن الرومانسيات الذي عبر أمريكا وتركها بلدا تركض في صحراء اللهاث الدائم، فكتب روايته محاكاة للمشهد الذي حرك فيه جانبا طحنته حياة استهلاكية وهي تسير بأقصى سرعة غير مكترثة بخلق لحظة عاطفية تتشكل في قطار يخترق من الشمال للجنوب.. هذه الرواية لقيت رواجا كبيرا في أمريكا وطبعت ملايين النسخ منها، ف«أريك ستيفال» (يروي فيها قصة فتى غني وفتاة فقيرة يحاول كل منهما أن يتجاوز وضعه الاجتماعي ليلتقيا في الحب ويتحدا في السراء والضراء... قصة حب تتحدث إلى قلوب جيل بكامله من الشباب... قصة بسيطة كالماء الذي يجري، غريبة كالحياة التي يوجهها حبيبان ليسخرا منها، مؤثرة كجميع المصائر البشرية... فيها تتضح أسمى معاني الحب والتسامي، «فالحب هو أن لا نجبر أبدا كي نقول أننا آسفون»). ومع انتشار الرواية كأن الشعب الأمريكي تنبه هو أيضا لغياب الرومانسية من حياته، والنجاح الكبير الذي حققته الرواية دفع بصناع السينما لتحويلها إلى فلم سينمائي يقطر حبا. ونحن الآن تموت حياتنا بالكرة، فتغذية الكرة مستمرة وبوتيرة متلاحقة، ولم يلتفت أكثرنا أننا نمضغ أقراص أحقاد صنعت لنا كي ننسى نهم قلوبنا لحالة وجد صادقة. وإذا كان ثمة من يبحث عن هذا الشاب لمحاسبته على تعليق اعتذاره لزوجته أمام الناس جميعا، فعلى الباحثين أن يكون هدفهم تتويجه بوسام لا معاقبته وإلا فإننا فعلا نتغذى بالكرة والتباغض لأي مشهد إنساني راق. وتذكير أخير لهؤلاء الباحثين بأن تراثنا يحمل سجلا حافلا بأسماء وقصص الحب التي لم يكن فيها أحد يبحث عن قيس مثلا ليعاقبه على حبه. أخيرا نحن نضع حجارة في صدورنا بسبب أننا غدونا أصناما في أوقات كثيرة.