«يقبّل روميو جولييت في لحدها ويجرع قارورة سم صغيرة ليموت بين يديها. تستيقظ هي من سباتها وترى حبيبها جثة هامدة، فتسارع ومن دون تفكير لتزرع خنجره في قلبها وتموت إلى جانبه». هكذا تنتهي رائعة شكسبير الكلاسكية «روميو وجولييت»، وهكذا ينتهي زواج الحبيبين القصير والمحفوف بالأخطار والإثارة في رواية خلدت الحب الجميل بين شخصين أصبحا مثالا لكل مغرم يخفق قلبه وعيناه ولعاً. ولكن ماذا لو قالت الرواية غير ذلك؟ ماذا لو تصالحت عائلتا العاشقين الهائمين قبل كارثة موتهما فعاشا في سبات ونبات وخلفا صبياناً وبنات؟ ماذا لو مرت السنين على زواج روميو من جولييت فاستغرقتهما هموم تأسيس عائلة ونالت التجاعيد من نقاوة وجهيهما وجمال اللوحات الفنية الرائعة التي صورت حبهما واستوحت من هيامها الكثير؟ وما كان مصير ذاك الحب وهل كان ليبقى خالداً أم لكانت فقدت الرواية بريقها الخلاب فلم تعد جولييت تلك الصغيرة الجذابة ولم يعد روميو كما عهدته هائماً في الليالي لا يأكل ولا يشرب ولا ينام من وجع الحب؟ هل كان من الممكن أن لا يجد النكد أو الملل طريقه إلى حياتهما كزوجين؟ وكيف كانت ستدور أحداث الرواية في مرحلة ما بعد الزواج؟ «الحب لا يدوم والأهم هو التفاهم والاحترام... الكثير ممن تزوجوا بعد قصة حب فشلوا بينما من حكّم عقله عاش حياة هنيئة... الزواج يولد الألفة والألفة تتحول إلى حب مع الأيام... وقبل مختلف تماماً عن بعد فالأحلام ليست كلها واقعاً ملموساً!» آراء وردود أفعال مختلفة تصور الحب قبل الزواج وبعده، كثيرون وكثيرات وجدوا في الزواج حداً فاصلاً بين هيام فترة الخطوبة وبين الاستغراق في استيعاب تفاصيل حياة غالباً ما تكون مختلفة بين الشريكين، والغوص في هموم تأمين المعيشة ومستقبل الأبناء. تروي سيدة في الأربعين عن عشرة العمر مع زوجها: «أحببنا بعضنا كثيراً وكانوا رفاقنا يسموننا قيس وليلى، أمضينا خطوبة ولا في الأحلام وكانت مشاعرنا فائضة وجياشة!» وتستذكر تلك المرحلة بفرح ثم تتابع: «عاهدنا بعضنا وقطعنا النذور ولكن بعد السنة الأولى من الزواج بدأت الأمور تختلف تدريجاً، لم يعد لحبنا ذلك الوهج. لا استطيع أن أقول إنه لم يعد يحبني، ولكن مفهومنا للحب اختلف، خصوصاً أننا صرنا تحت سقف واحد. لم يعد للشوق مكان، وصرت أتضايق من بعض عاداته، وباتت بعض تصرفاتي تزعجه. وازدادت الأمور سوءاً منذ أن أنجبت ابننا الأول فضاق الوقت وضاقت مساحة البيت. ومع الولد الثاني أصبح الهم أكبر». وللزوج رأي مشابه فهو يرى أن لا مهرب من أن يتغير الحب بعد الزواج، وتصبح مؤسسة الأسرة أكبر من مجرد زوجين عاشقين، فهي مسؤولية وحياة مشتركة بأدق تفاصيلها، لا يستطيع الطرفان إدراك أعبائها قبل الزواج. أعمى إلى موعد محدد؟ تؤكد دراسات أجراها باحثون في جامعة لندن أخيراً أن الحب أعمى بمعنى أنه يؤثر على دوائر رئيسة في المخ ويعطل الدوائر العصبية التي ترتبط بالعقل والتقييم الموضوعي لمن حولنا. وهو الأمر الذي يفسر أسباب تغاضي بعض الأشخاص عن الأخطاء أو الصفات غير المرغوب فيها في من يحبون. وهي غشاوة قد تزول مع مرور الوقت ليكتشف كل طرف حقيقة الآخر أو بالأحرى يفتح الأعمى عينيه. وأجرى باحثون في جامعة كورنيل بنيويورك تجربة على عينة تضم خمسة آلاف رجل وامرأة، ينتمون إلى حوالى أربعين ثقافة مختلفة على مستوى العالم. وأخضعوهم لاختبارات نفسية وبيولوجية بهدف قياس مستوى الحب بين الأزواج ومدى تأثيره على العلاقة الجنسية وخلصت دراستهم إلى أن الحب لا يعيش مع العلاقة الحميمة أكثر من أربع سنوات كحد أقصى، ليبقى بعدها الود وحسن المعاشرة! وبعيداً من خيال الروايات وعلم النظريات تثبت الكثير من الحالات في الواقع تغيراً نسبياً في درجة الحب وأشكاله بين العشاق مع مرور زمن على حياتهما الزوجية. فهنا نجد من تعض أصابعها ندماً لأنها خالفت إرادة أهلها وضحّت بكل شيء مقابل الحب الذي تلاشى مع الوقت. وهناك من وجد أن زوجته أم سالم لم تعد تمت بصلة إلى سلوى الصبية الظريفة المرحة التي أحبها. ولكن بين من يقع ضحية أثقال الحياة التي تجرده من طاقته على الاهتمام بالتفاصيل التي تغذي الحب وتقف بوجه انحسار اللهفة وبين من يستسلم للتغييرات الفيزولوجية والنفسية التي ترسمها سنين العمر على الوجه والقلب معاً، توجد قلة تنتصر للحفاظ على الحب وإن بأشكال مختلفة وتحويل تجربة صعبة وغنية مثل الزواج إلى تحدٍ ممتع أبعد ما يكون عن الروتين، كما تروي جدة في الستين من عمرها: «لا يزال يغازلني كما في السابق وما زلت أتجمل له كما في السابق ولعل السر يكمن في سفره الدائم وابتعاده عني لبعض الوقت، فطبيعة عمل زوجي أجبرته على غياب متواتر عن البيت. الأمر الذي أجج الشوق والحب والغزل بيننا سنين طوالاً». تبتسم خجلاً وهي تنظر إلى صورة زفافهما التقليدية التي تتصدر عرض الحائط في غرفة الجلوس، وتضيف: «اليوم نعد أيامنا الأخيرة معاً ونحن ممتنان لبعضنا بعضاً ولخصوصية حياتنا التي، وعلى رغم صعوباتها، منحتنا فرصة أن نعيش مشاعرنا بعمق أكبر». وقد توصلت إلى ذلك أيضاً بحوث حديثة وجدت أن العلاقات الزوجية التي يسودها الحب والتفاهم ترفع نسبة المناعة في الجسم، وتقلل من خطورة التعرض لبعض الأمراض وللأزمات قلبية لأنها تبقي نسبة هورمون الضغط العصبي منخفضة. «سأظل أحبك حتى آخر العمر»، هكذا عاهدها حبيبها وهكذا صنعت هي في مخيلتها صور حياتهما المقبلة بعيداً من تغير الحسابات والماديات. الحب لا يترك لنا خياراً إلا أن نحلم ونرسم ونعمى... ولعل أجمل الروايات ستختلف إذا ما بدأناها بسؤال: «ماذا لو؟».