أفتى أبو حنيفة النعمان بأنه يجوز لمن أسلم حديثاً أن يقرأ الفاتحة بلغة غير العربية, الفتوى قد تبدو غريبة بعض الشيء في الوهلة الأولى, خصوصاً ونحن نتحدث عن ركن من أركان الصلاة والتي هي بدورها ركن من أركان الإسلام, وهذا معناه أن المسلم حديثاً سيقرأ الفاتحة بالمعنى فقط وسيردد في صلاته كلمات أعجمية! حال أبي حنيفة أنه رأى أناساً يريدون أن يؤدوا الصلاة وهم لا يحسنون العربية فأمرهم بالمستطاع لكن ما الذي دعاه لتبني مثل هذا الرأي برغم أنه متقدم جداً في زمنه فقد ولد في سنة 80 للهجرة؟ على ما يبدو أن التقدم و التأخر الزمني ليس له ذاك الأثر فيما يتعلق بمراعاة ظروف الآخرين, النماذج المتطرفة موجودة حتى في زمننا هذا، المؤثر الأقوى هو البعد المكاني, الأرض هي من يصوغ عقول الناس وهي الصور التي رسمت في أذهانهم منذ الصغر وهي معلمهم الأول ومصدر إلهامهم. عندما يكون الفقيه في أرض لم ير فيها في كل حياته حديث إسلام واحد, ولم ير في حياته إلا عرباً مسلمين أبناء عرب مسلمين, فإنه من غير المنتظر منه أن يكون بهذا التسامح وتقدير حال من لم يرهم ويتصور أوضاعهم ونمط حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم, وكثيراً ما كانت هذه المشكلة في كثير من قضايانا عندما نتصور قصة أبي حنيفة مع الفاتحة ونقيس عليها تلك القضايا. الأرض تحكم ساكنيها وتطبعهم بطابعها وقوانينها, لكن من الممكن الحد من هذا الطغيان الذي تمارسه الجغرافيا بأن نسعى لجعل المؤثرين من رجال دين ومفكرين يلتقون أكثر في حوارات لا تقف عند حدود الوطن بل تتجاوزه لتشمل العالم كله, إذ لا شيء يخلق لدى الإنسان تلك الرؤية العميقة للكون والحياة سوى كثرة السياحة في الأرض ولقيا الناس, لا يمكن للإنسان أن تبقى نظرته نفسها بعد رحلة كتلك.